رحلتي إلى الثمانين
بعد أرباعِ القرنِ الثّلاثةِ، انقضى اليومَ (الثامن من نيسان – ابريل) العَقدُ الثُّامنُ مما قسمَ لي خالقي من سنواتِ العُمر. ثمانون عامًا أسأمتْ «زُهيرًا»[2] لكنَّها لم تُسْئِمْني. لقد خصَّني ربّي فيها بزوجةٍ صالحةٍ، ورزقني منها ثلاث زهراتٍ، ملأنَ حياتي بعطرِ وبراءةِ الطفولةِ صغيراتٍ، وبدلالِ وحنانِ ومحبةِ البنتِ يافعاتٍ وشابَّاتٍ، فعرفتُ معنى الحياةِ الهنيئةِ والعِيشةِ الرّاضية. ثم وهبني هديتين من أجمل الهدَايا، حفيدينِ، جعلاني أستعيدُ معهما لذةَ التّمتُّعِ ثانيةً بعذوبةِ الطّفولةِ البريئة.
ولا أنسى ما منحني من القُدرةِ والصّبرِ وطولِ الأناة، أعانتني كلُّها على القيام بأبحاثٍ في القرآن الكريمِ وغيره، أصدرت بنتيجتها بضعة كتبٍ، أرجوه تعالى أن يكون فيها النّفْعُ إلى أبناء قومي والبشرِ أجمعين.
وعلى الرُّغمِ مما مرَّ بلبناننا وبلادنا العربية، ولم يزلْ، من أحداثٍ مؤلمةٍ مؤسفةٍ، وهجرةٍ وتهجيرٍ، فقد حفظَ لي كرامتي وكرامة عائلتي أينما أقمنا أو حللنا. وعند كلّ ضائقةٍ ماديةٍ، ومن دون أن أدري، كنت أرى بابًا يُفتحُ امامي لم أكن أراه. فالحمد والشكر لك يا إلهي.
وعندما أعود لأستعرض بالذّاكرة بعضًا من مسيرةِ حياتي، على مدى تلك الأيام والشهور والسنوات، أراها صورًا تمرُّ في مخيلتي مسرعةً، وأسرعَ مما يمرُّ أمام أنظارنا فيلمٌ سينمائيٌّ تاريخيٌّ.
ثمَّ تقودني الذّكريات لأستخلصَ بعضًا مما تعلّمتُه في «مدرسة» الحياة ولا تحويه الكتب، فأقول:
كلّما تقدّم بنا العُمرُ ازدَدْنا تَقبُّلًا لأمورٍ كنَّا نأنَفُها.
زَرْعُ الفتنةِ بين الجُهَلاء سهلٌ كإشعال النّار في الهشيم، ووأدُها صعبٌ كإطفاء لهيبِ نارٍ متّقِدة.
عوِّدْ لسانَك أن يقولَ خيرًا أو فليصمُتْ.
لا تعملْ على تشويه مُعتقداتِ غيرك، فلكلٍّ منَّا معتقداتٌ يُجِلُّها.
الاجتزاءُ أنجعُ وسيلةٍ لتشويهِ الحقائقِ.
سأواصل دومًا اتباع قول والدي، رحمه الله: لا تقعُدْ في مكانٍ قد يُطلبُ منك أن تغادرَه.
الخطأ لا قاعدةَ له.
ما كلُّ من ابتسمَ في وجهي وأسمعني كلامًا جميلًا، صديقٌ.
إن لم تستطعْ أن تعملَ بالمهنةِ التي تحبُّ، فنجاحُك يضمنُه حُبُّكَ للمهنةِ التي تعملُ بها.
الطُّمأنينةُ والإيمانُ يجلبان السَّعادة.
أهونُ المعْضِلات ما يُحلُّ بالمال.
كثيرًا ما يَفرِضُ علينا العملُ أو الاجتماعياتُ احترامَ أشخاصٍ وإقامَةَ علاقاتٍ معهم، كنَّا نتمنى لو لم نرهمْ في حياتنا قطٌّ.
قد أُحبُّ وأُجِلُّ إنسانًا ما، ولكنّي لن أُنزِّهَهُ أُو أقدِّسهُ أو أكونَ له عبدًا مهما سما موقعه.
رفقةُ السَّفرِ تكشفُ معدنَ الرَّفيق.
مهما طالتْ عِشرتُك لإنسانٍ ما فلن تعرفَه جيدًا حتى تعاملَه.
الحبُّ الذي لا يستمرُّ إلا بالمال ليس حبًّا.
صاحبُ القلم ذو عقلٍ راجحٍ، وحاملُ السِّلاحِ لا عقلَ له.
من لا يسألُ عنِّي إذا غبتُ، ولا يتذكّرُني إلا طلبًا لمالٍ فلا حاجةَ لي فيه.
بعضُ الكلام يُعمِّرُ، وبعضُه يُدمِّرُ.
لا تُبنى الأوطانُ بصورةٍ أو بأغنيةٍ أو بكلامٍ منمّقٍ أو بأبياتٍ من الشّعرِ، بل بالعملِ الدّؤوبِ وبكلِّ إخلاصٍ وجهدٍ.
المرأةُ ليستْ داءً مُعديًا أو وباءً لتعزل، ولا سلعةً رخيصةً مبتذلةً لتعرض.
ليس عيبًا في أن تقتبسَ عن غيرك رأيًا أو قولاً، ولكنَّ العيبَ في أن تنسبَهُ لنفسِكَ، وتُغفِلَ اسمَ صاحبِه.
ارسمْ طريقك دومًا قبلَ أن تخطوَ خطوتَك الأولى.
إذا لم يكنْ لديك في حياتكِ هدفٌ تسعى إليه فلا معنى لها.
كثيرًا ما تكونُ المظاهرُ خدّاعةً، فلا تحكمْ على أحدٍ قبل أن تختبرَه جيدًا.
ولا تطلقْ حكمك على كتابٍ قبل أن تدرسه درسًا معمقًا.
في الأزماتِ ينكشِفُ الكثيرُ من المنافقين.
لو فهم النّاس تعاليمَ أديانهم بشكلٍ صحيحٍ لعمَّ السّلامُ الكونَ.
لو كنتُ أعرفُ، قبلَ أن أصبحَ أبًا، لذةَ لقاءِ الأبناءِ، لما ابتعدتُ عن والدَيَّ ساعةً واحدةً.
بعثَ اللهُ الأديانَ لتؤلِّفَ بين البشرِ، فاصطنعوا المذاهبَ لتُفرِّقَ بينهم.
إن رُمتَ عملًا، فليكنْ كما يصلح، وإلا فتركه أصلح.
لو عرف كلُّ الناس جذورهم لعمَّ السلامُ الكونَ.
ختامًا أدعو اللهَ، في يومي هذا، أن يكون ما تبقَّى لي من العمر ما دامت الحياة تليق بي وما دام قلمي لم يجفّْ، وألّا يُريَني مكروهًا في أحدٍ من أفراد عائلتي، كي أُغادرهم قريرَ العين.
اللهم استجبْ دُعائي، وأكرمني وارحمني في شيخوختي.
تعليق الصديق د. علي حرب
وقد علق، على هذا المقال، الصديق العزيز الأديب والمربي الدكتور علي منير حرب، بهذه الكلمات:
صديقي أسامة الذي أعتزّ وأفخر
أسعد الله أيامك وزيّن عمرك بالعافية وضياء الفكر
قرأت «رحلتك الثمانينية الحكيمة» فأعجبت واستمتعت، ووجدتك كعادتك متألقًا فكرًا ولغة وروحًا تتسع للكون كله.
مباركة هي سنوات عمرك يا صديقي، التي لا أحسبها بالعدد إنما بحصاد الحكمة الذي جمعت.
أينما قرأتك يا عزيزي، وكيفما وقعت على نتاج فكرك وقلمك، لا أفقد فيك خصالًا باتت من لصيق لحمك ودمك:
صدق متناه في شفافيته، إيمان ناصع هادئ في رسوخه وتجذره، وحكمة رفيعة تجمع آيات صالحات من خبيز التجربة ومعاركة الأيام والناس.
هنيئًا لك يا صديقي ما أنعم الله به عليك، وليبارك ما تبقى من لياقة الحياة لك، وليبق فكرك وقادًا وقلمك سيّالا ونبع حبك وتسامحك فيّاضًا كفيض النعمة الإلهية علينا.
علي حرب
[1] نشر على صفحتي على الفيس بوك يوم 8/4/2019.
[2] هو زهير بن أبي سلمى بقوله: سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعِشْ** ثمانين حولًا لا أبَ لكَ يسأمِ.