اللهُمَّ قِنِي ظُلْمَة العَمَهِ وهَبْنِي نُورَ البَصِيِرَة[1]
في اللغة، «العَمَهُ فـي البصيرة كالعمى فـي البصَر. ورجل عَمِهٌ عامِهٌ أَي يَتَرَدَّدُ مُتَـحيِّرًا لا يهتدي لطريقه ومَذْهَبِه، والـجمع عَمِهون وعُمَّهٌ. والعَمَهُ فـي الرأْي، والعَمَى فـي البصَر.»[2]
«والبَصِيرُ من أَسماء الله تعالـى، وهو الذي يشاهدُ الأَشياء كلَّها، ظاهرَها وخافـيَها بغير جارحة.»[3] وفي التنزيل العزيز ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (الشورى 27).
«والبَصَرُ العَيْنُ إِلاَّ أَنه مذكّر، وقـيل: البَصَرُ حاسة الرؤْية. وأبصَرْتُ الشيءَ وتَبَصَّرْتُ به، وتَبَصَّرتُهُ: شِبْهُ رَمَقتُه.» [4]
ويقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ اَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ (الحج 44).
و«البصيرة: الدِّرْعُ، ويقال: ما لُبِسَ من السِّلاح فهو بَصائِرُ السِّلاحِ.»[5] فبصيرة الإنسان إذًا وسيلةٌ لحمايته من الزلل، كما تحمي الدّرعُ صدر المحارب.
«والبَصيرة: العِبْرة، يقال: أَمَالَكَ بَصيرةٌ في هذا؟ أي عِبرةٌ تَعْتبرُ بها.»[6]
فمما تقدم أستخلص أنّ البصيرة تولد من رحِمِ المعرفة والعلم والتجارِب، وبها يُمكننا القياس بين أحداث الماضي وما يمكن حدوثه في المستقبل من القرائن، وكشف بواطن الناس من حركة صغيرة أو كلمة بسيطة. والبصيرة من الحكمة: فالبصير حكيم قد أَحْكَمَتْه التـجارِبُ. والبصيرةُ اسمٌ لِما اعتُقِدَ في القلب من الدِّين وحَقيق الأمر. فالبصيرة بالتالي أعلى درجات العلم.
وعمى البصر لا يعوق حياة الإنسان إن أعمل إرادته وقدراتِه الفكرية والجسدية، ولذا قيل: «كل ذي عاهة جبّار.»
فكم من عبقريٍّ عرفتهم البشرية كانوا مكفوفي البصر، أذكر منهم: الشاعر الفيلسوف، أبو العلاء المعري، وعميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، والموسيقار العالمي المشهور بيتهوفن، ولويس بريل (Louis Braille) الذي أضاء العالم للمكفوفين، بنظام القراءة والكتابة المعروف باسمه.
أما العَمِهُ (أعمى البصيرة) فقد لا يختلف كثيرًا عن الأحمق الذي قال فيه المتنبّي:
لكل داء دواءٌ يُستطبّ به *** إلا الحماقةُ أعيت من يداويها.
وكمثالٍ أراه يبين بعضًا من رؤى البصيرة، أورد هذه الحكاية:
روى لي يومًا، صديقي سمير الحكاية التالية[7]: – وكان مديرًا في أحد المصارف، مؤكدًا أنّه قد عايش أحداثها، كما لو أنّها جرت أمام عينيه – قال: إبّان عملي في المصرف، توثّقتْ علاقتي بأحد عملائه المتمولين، ويدعى يوسف، وكان من الذين عركتهم الأيام وعلمتهم التجارب ما لم نتعلمه في المدارس والجامعات، وقد كان يناهز الستين من سنوات العمر. وبعد مدّة من الزمن، رحتُ أرى برفقته شابّا، اسمه وليد، في أوائل العقد الرابع. وقد علمت منه بأن وليدًا هذا، شابٌ نشيطٌ ودقيقٌ في عمله ويطمح إلى بلوغ ما هو أحسن.
وبعد ما يزيد عن الأسبوعين، جاءني يوسف بمفرده، فسألته عن وليد، فقال: لقد ذهب في حال سبيله، وفّقه الله.
قلت: هل في الأمر ما يمنعك من أن توضح السبب؟
قال: السبب هو أنّه كان قد عرض عليّ المشاركة، هو بالعمل وأنا بالمال، في مشروع رأيته مجديًا، ولكنّني أبلغته، منذ بضعة أيامٍ، عدم رغبتي في السير قدمًا في تلك الشراكة.
قلت: وهل اكتشفت في ذلك المشروع ما جعلك تراه فاشلًا أو غير مجدٍ؟
قال: لا يا صديقي، بل هو جيّدٌ وربحه مضمون.
قلت: ولماذا تخلّيت عنه إذًا؟
قال: لأنّني بدّلت رأيي في مشاركة وليدٍ نفسِه.
قلت: وهل صدر عنه أيّ إساءة إليك؟ أم هل اكتشفت فيه أمرًا ما، جعلك تعزف عن متابعة السير في مشاركته؟ وممّا خبرته فيك من الحكمة والفراسة، يجعلني أتوقع شيئًا من هذا.
قال: اسمع يا صديقي، لم أكن أرغب في الإفصاح عن السبب الذي دعاني إلى ذلك. وإنّني أعرف جيدًا أنّ رغبتك في معرفته، تفرضها متطلبات العمل المصرفي. كما أنّ السريّة في عملك هذا، تجعلني متأكدًا من أنّ ما تسمعه عن الآخرين تحفظه سرًّا في صدرك.
ثم تابع: لا يا صديقي لم يصدر عنه أيّ إساءة أو تصرّفٍ مسيء، ولو، بشكل غير مباشر، سواء تُجاهي أم تجاه غيري، فهو شابٌّ مهذبٌ. وجلّ ما في الأمر أنّه تصرّفٌ بسيط أثار في نفسي بعض الشكّ، وقد أكون مخطئًا، ولكن متى خالج الشكّ النفس، فقد يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة. والثقة الكاملة بين الشركاء أساس ودعامة استمرار الشراكة ونجاح العمل.
قلت: وكيف حصل ذلك؟
قال: في ذلك اليوم، وضعنا، أنا ووليد، اللمسات النهائيّة لأسس مشاركتنا في تنفيذ ذلك المشروع، على أن نبلّغها، في اليوم التالي، إلى المحامي لصياغة العقد. فقلت له ما دمنا قد أنهينا اتفاقنا ولم يزل لديك بعض الوقت، قبل ساعة عودتك إلى بيتك، فلِمَ لا نلعب جولة بطاولة «النرد»؟
ولما انتهينا من اللعب، أغلقت الطاولة، وقلت له: أهنّئك، فقد ربحت جولة اللعب هذه. ولكن، أرجو أن تنسى ما سبق واتفقنا عليه في ما يخصُّ فكرة الشراكة بيننا.
فقال وليد، وعلامات التعجّبِ والأسى باديةٌ على قسمات وجهه: ولماذا يا صديقي؟ فهل بدر منّي أيُّ إساءة؟ أم أنّك غضبت لأنّني ربحت جولة اللعب؟
فقلت له: لا يا عزيزي، لا علاقة لربحك هذا ولا للخسارة في قراري. ولكنّ إحساسي بأنّك استغللت ضعف نظري، أدخل في نفسي بعض الشكّ تُجاهك. فقد كنتَ في كثيرٍ من الأحيان تقرأ الأرقام على غير ما كانت تستقرّ عليها الكِعاب[8]. فخالجني شعور بأنّ من لا يؤتمن على المناقب في اللعب، قد لا يؤتمن على المال في الشراكة. وعندما يدخل الشكُّ في النفس تنعدم الثقة. ولم يبقَ لي سوى أن أتمنى لك التوفيق.
وختم صديقي سميرٌ روايته، قائلًا: ومنذ ساعة انتهاء يوسفَ من كلامه هذا، فُتحت طاقةٌ أمام بصيرتي، فرحت أدقّق في أصغر وأدقّ حركات وكلمات عملاء المصرف، كي أسبر غور أنفسهم. وهذا ما ساعدني كثيرًا في المحافظة على سلامة محفظة القروض المالية في فرع المصرف الذي كنت أديره. (انتهت الحكاية).
ختامًا أقول: لو كان مسؤولو حكومات «ما يسمى بالعالم الحُرّ»، يتمتعون بالبصيرة الثاقبة الواعية البعيدة المدى، لما أباحوا ما نراه اليوم من البِدع المخالفة للطبيعة والقيم، كاللواط والسحاق والمساكنة وحرية النساء في الإسقاط من دون سبب مُوجِب، وحرية الأطفال في تغيير الجنس، وغيرها، بحجة حرية الإنسان بجسده.
لقد عَمِهَت قلوبهم وعقولهم عمّا قد يجرّه ذلك من وبال على شعوبهم، أهمُّه تفتيتُ وتدميرُ الأسرةِ التي هي أساس المجتمع، ونقصُ الولادات، الذي يشكون منه، ما قد يؤدي بالتالي إلى انقراض شعوبهم، أو جعلِ أبنائها أقلياتٍ في أوطانهم. فهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. (الأنعام 110).
فاللهمّ قِنا العَمَهَ واجعلنا من البصراء.
مونتريال
8/6/2024
أسامة كامل أبو شقرا
https://whisperingdialogue.com/2024/07/15/%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87%d9%8f%d9%85%d9%8e%d9%91-%d9%82%d9%90%d9%86%d9%90%d9%8a-%d8%b8%d9%8f%d9%84%d9%92%d9%85%d9%8e%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%8e%d9%85%d9%8e%d9%87%d9%90-%d9%88%d9%87%d9%8e%d8%a8/
[1] نشر في مجلة «همس الحوار» – لندن – العدد – 25 – تموز / يوليو 2024
[2] (لسان العرب)
[3] (لسان العرب)
[4] (لسان العرب)
[5] (لسان العرب)
[6] (كتاب العين – الخليل بن أحمد الفراهيدي)
[7] الأسماء الواردة في هذه الحكاية أسماء مستعارة.
[8] الكِعاب، فصوص النرد. والعامة تقول: «الزهر».