كيف يعالج القرآن الكريم مشكلة الفقر

هكذا يعالج القرآن الكريم مشكلة الفقر

يشكّل الفقر، منذ القدم، مشكلة اجتماعية مهمّة، بل ومن أهم مشاكل المجتمعات. فالفقر يتسبب في الكثير من الآفات التي تؤثر سلبًا في حياة المجتمع، قد تصل إلى تفكّكه أو انهياره، ومنها: الأمراض، سواء الجسدية أم النفسية، والأمية والجهل، وانتشار الجرائم بجميع أشكالها، والانحلال الخُلقي، والحقد والكراهية بين الطبقات؛ وصولًا إلى الاضطرابات والثورات.

 

وقبل أن نبحث في الطريقة التي يعالج بها القرآن الكريم مشكلة الفقر لا بد لنا من أن نبيّن أنّه جعل الفقراء ثلاثة وهم: الفقراء والمساكين والمتعففون؛ وهؤلاء ممن تجوز عليهم الصدقات.

 

وفي المعنى يقول ابن منظور[2]: «الفَقِـير الذي له بُلْغَةٌ من العيش؛ والـمسكين الذي لا شيء له… فالـمسكين أَسوأُ حالًا من الفَقِـير». فالفقير إذًا هو من يُعرِّفُه علم الاقتصاد الحديث بأنه الذي يعيش عند خط الفقر، والمسكين مَنْ عيشته تحت هذا الخط.

 

أما المتعفّفون فهم فقراء، ولكنهم يُخفون فقرهم من شدة التعفّف. وهم من ذكرتهم الآية: {لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في ٱلأرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـٰهُمْ إِلْحَافًا… *} (البقرة 273). وفي تفسير الجلالين لهذه الآية نقرأ: «{يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ} بحالهم {أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ} أي لتعففهم عن السؤال وتركه}».

 

ويضيف القرآن إليهم، نوعين آخرين من الذين تجوز عليهم الصدقة، وقد تكون حاجتهما طارئة، إذا صح التعبير، وهما: السائل، وهو الذي يطلب الصدقة، ومن المفترض أن يكون سؤاله لحاجة مؤقتة. وابن السبيل، وهو المنقطع في سفره، سواء كان فقيرًا أم غنيًا.

 

أما كيف يعالج القرآن الكريم، مشكلة الفقر هذه؟ فهذا ما سنحاول بيانه، بإيجاز، فيما يلي:

 

أولًا: بالحض على العمل

يحض القرآنُ الإنسانَ، مهما كانت حالته المادية، على العملِ بطريقتين، مباشرة وغير مباشرة:

 

1 – الطريقة المباشرة: وهي في الدعوة إلى السعيِ للحصول على الرزق. والسعيُ لا يكون إلا في العمل، كما في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا…*} (القصص 77) {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا…*} (الكهف 46) {… فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ…*} (الجمعة 10) {… فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ… *} (العنكبوت 17).

 

2 – الطريقة غير المباشرة: ونراها في الأمور التالية:

– عدم تحديد سقف للملكية الفردية: الإنسان مجبولٌ بطبعه على حب المال والحصول عليه والرغبة في التملك كما في قوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا *} (الفجر 20). إن القرآن لا يضع لهذه الملكية حدودًا سوى مشيئة الله تعالى في توزيع الرزق، {… وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة 212). وكما جعل الله الناس درجات {… وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ…} (الزخرف 32)، كذلك فقد فضل بعضهم على بعض في الرزق {… وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ…} (النحل 71).

 

قد يقول بعضهم بما أنّ الله يوزع الرزق بمشيئته هو، بمعنى أن كل إنسان له قدر معين من الرزق حدّده له الباري سلفًا، منهم من يبسط له الرزق بغير حساب ومنهم من يضيّق عليه، فلماذا إذًا علينا بذل الجهد والجد والسعي للحصول على المزيد من هذا الرزق؟ والجواب على هذا القول نجده في قوله تعالى: {كُلًا نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا *} (الإسراء 20).

وكما أنّه تعالى لم يحجب الهداية عمن طلبها صادقًا مؤمنًا، كذلك لم يقفل عليه باب الرزق، بل على العكس فهو يحضُّ على ابتغاء الرزق حيث يقول: {…وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} (القصص 73). و{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا…} (إبراهيم 34). و{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} (الأنفال 53). {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ…} (الأنعام 132).

 

ثمّ مَن بسيمهم بني الإنسان له اطلاع على مشيئته تعالى، كي يعرف ماذا أو كم قسم له من الرزق أو حتى متى سيصل إليه ما قسم له؟ هذا ما يجعلني أرى أنّ قوله تعالى: {…اللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ *} هو حافزٌ على العمل لا على الكسل.

 

منع الربا والميسرَ (المقامرة) وأكلَ السحتِ[3] والمالِ الحرام: هذا المنع يجعل الإنسان يسعى إلى تحصيل الرزق عن طريق العمل المنتج وبما أحله الله من زراعة وتجارة وصناعة…إلخ.

 

المكاتبة: وهي في تعهد المملوك لسيده بدفع مالٍ متفقٍ عليه مسبقًا وفي مدة محددة، يصبح بعدها هذا المملوك حرًا، {… وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ…} (النور 33). وهل في الدنيا أهم من الحرية يسعى الإنسان إلى التمتع بها؟ وفي هذا أيضًا تشجيع للعبد على العمل ليكسب المال الذي يمكِّنه من استرداد حريته. وبعد أن ينال غايته هذه يصبح متوجبًا عليه العمل لكسب معيشته ومن ثم معيشة أفراد أسرته.

 

ثانيًا: إيجاد فرص العمل: إن القرآن في منعه الربا وكنز الأموال، يدفع بأصحاب هذه الأموال لاستثمارها في أعمال منتجة، مما يؤدي إلى إيجاد فرصٍ جديدة للعمل. هذا بالإضافة إلى انتقال صاحب هذا المال، ليس فقط، من شخصٍ عاطلٍ عن العمل، بل أيضًا من عَلَقةٍ تمتصُّ دم غيرها لتعيش، إلى إنسان عاملٍ منتجٍ بشخصه.

 

ثالثًا: في توزيع الثروة: الإنسان بصفته خليفة في الأرض، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس 14)، فهو بالتالي مستثمر لخيرات هذه الأرض. وعلى هذا المستثمر واجبات، نراها شبيهة ببدلات الاستثمار وهي: الزكاة، والصدقات والإنفاق في سبيل الله على ذوي القربى واليتامى والفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب والوالدين، في كبرهما، والجار… وبالتالي على كل محتاج. ويضاف إلى ما سبق: الخمس[4]، وأموال الكفارة[5]،… وكلها أمور من شأنها توزيع أجزاء من الثروة الفردية على المحتاجين من أفراد المجتمع. ولا ننسى أن الله تعالى عندما قسم أموال الفيء[6]، في الآية (7) من سورة الحشر أتبعه بقوله: {… كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ…}، أي كي لا تنحصر الأموال بين أيدي الأغنياء. وفي هذا أنّ القرآن يوصي بعدم استئثار القلّة في المجتمع بمعظم أموال الثروة الوطنية.

وهناك عامل آخر يساهم في توزيع الثروة ألا وهو نظام الوِرث[7]، الذي يوزع ثروة المورِّث بين ورثته فتنتقل أموالها من يد واحدة إلى أيدٍ متعددة.

رابعًا: التكافل الاجتماعي: ويكون في أمرين: أولهما على صعيد الأفراد، بما أمر به القرآن بالتكافل بين الأقرباء وبالإنفاق في سبيل الله {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ…} (البقرة 215)، {… وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ…} (الأنفال 75). وثانيهما في دور أولي الأمر، أي الدولة، في توزيع أموال الزكاة والخمس والفيء.

 

خامسًا: القرآن يقضي على الرقّ: وهذا ما نراه نتيجة للمكاتبة وللكفارة:

 

المكاتبة: لو أعدنا قراءة قوله تعالى: {… وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ… *} (النور 33)، ثم دققنا في صيغته اللغوية في قوله: {والذين يبتغون الكتاب… فكاتبوهم} ألا ترى معي، أيها القارئ الكريم، أن في هذه الصيغة أمرًا من الله تعالى إلى المالك بمكاتبة مملوكه الذي يرغب فيها؟ وفيها أمر آخر بقوله: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، فهو يأمر أيضًا بمساعدتهم ماليًا. وإذا قلنا بأنّ هذه المكاتبة مشروطة بمعرفة الخير في هذا المملوك، فهذا طبيعيٌ لأن حرية العبد غير القادر على كسب عيشه، أو غير الصالح قد يكون فيها أذيّة للمجتمع، بخاصة إن كان في قلب هذا العبد حقد على سادته، فقد يتحول عندها إلى الإجرام انتقامًا من هؤلاء السادة. وقد جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية ما يتطابق مع رأينا، عندما يقول: «هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه».

 

الكفارة: كثيرًا ما يفرض القرآن، في الكفارة، تحرير رقبة، سواء للتكفير عن تقصير في تأدية فريضة، كما في أحكام الصيام مثلًا، أم عن عمل قمنا به من الأعمال المحرمة، كالقتل، أو في كفارة اليمين…إلخ. وهذا ما أرى فيه أيضًا وسيلة للقضاء على الرق ولو على مراحل. وكما نعلم، فكل تغيير مهمّ في النظم الاجتماعية والاقتصادية تكون نتيجته أفضل إذا كان مرحليًا من أن يحصل على دفعة واحدة.

وقبل الختام إليكم هذه الرواية عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز: «حدّث يحيى بن سعد، قال: «بعثني عمر على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرًا، ولم نجد من يأخذها قد أغنى عمر الناس»[8]. ونشير إلى أن مدة خلافة عمر بن عبد العزيز كانت سنتين وخمسة أشهر فقط (99 – 101 هـ). وعلى الرغم من قصر ولايته استطاع أن يقضي على الفقر. حبذا لو رأينا، في العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة، مسؤولًا واحدًا، يتشبه بهذا الخليفة، الذي يُعدُّ بحق خامس الخلفاء الراشدين. وليذكروا قول الشاعر: «إن التشبه بالكرام فلاح».

وفي النهاية نقول إن ما ينطبق على الإنسان الفرد في توزيع الثروة وفي التكافل الاجتماعي، ينطبق أيضًا على الأمم والدول. فلو أنفقت الدول الغنية من فائض أموالها على الدول الفقيرة لأمكن أن تتوصل الإنسانية إلى القضاء على ظاهرة الفقر وما ينتج عنها من سلبيات.

ونختم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *} (الحجرات 13).

 

 

[1] كتبت هذا المقال في 23/11/2009، وهو مستخلصٌ من كتابي «الاقتصاد في القرآن».

[2] لسان العرب.

[3] في لسان العرب: (السحت: الحرام الذي لا يحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها). وبالتالي هو كل ما قد يحصل عليه الشخص من غير وجه حق، كالرشوة والخوة والمتاجرة بما هو حرام وما شابه ذلك.

[4] الخُمس: هو تأدية خمس المغانم إلى أولي الأمر من بعد النبي ﷺ. وقد اختلف فقهاء المذاهب في المقصود بالغنيمة. فبينما يقول فقهاء السنة: إنها كل شيء غُنم في الحروب مع المشركين، يقول فقهاء الشيعة بل هو كل ربح حصل عليه المسلم من سعي. وقد فرضته الآية التالية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال 41). ويقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعيٍ.

[5] والكفارة هي ما يشبه الغرامة المالية في أيامنا هذه، وتفرض على كل من أخطأ أو قصّر في واجب ديني، أو قام بعمل محرم…

[6] والفَيْء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب.

[7] إن الشائع هو في قولك: نظام الإرث. ولكن الفيروز بادي يقول: الوِرْث والـميراث فـي الـمال، والإِرْث فـي الـحسَب.

[8] (راجع ص 53 من كتاب عمر بن عبد العزيز في الحكم والاقتصاد والقضاء – للدكتور محمد علي ضناوي الطبعة الثالثة 1425 هـ = 2004 م طرابلس- لبنان.)هكذا