الثلاث شعرات
في أوائل القرن العشرين لم يكن يوجد في كثيرٍ من القرى الجبلية النّائية سوى دكّان واحد، أو اثنين وأحيانًا ثلاثة بحسب كثافة سكّان كلٍّ منها. وكان الدّكّان يحوي كمية متواضعة من معظم ما يحتاج إليه أبناء القرية لمعيشتهم اليومية. وكان صاحبه يذهب، إلى أقرب مدينة منها، لشراء بضائعه مرّة أو مرّتين في الشهر، لصعوبة الطّرقات وقلّة وسائل النقل، التي لم تبدأ بالتزايد إلا في عشرينيات ذلك القرن. أمّا القرى النّائية فبقيت تعتمد على الدّواب و«الطّنابر»، وهي عربات تجرّها البغال، للانتقال والنّقل، إلى أن شُقَّت الطّرق التي وصلتها بالبلدات الكبرى، التي كانت سابقًا متّصلة بعضها ببعض، بطرقات كانت، قبل السيارات، مخصّصة لسير عربات الخيل و«الطنابر».
كان الشّيخ صبحي يعيش في إحدى تلك القرى النّائية ويملك الدكّان الوحيد فيها. وقد عُرف بالنّزاهة والورع والتّقوى. وكان يقصد مدينة صيدا مرَّة كلَّ شهر للتّبضّع. وكان معتادّا أن يقوم بجولة على عدد من تجّارها، الذين يتعامل معهم منذ عدة سنوات، ليختار ما يحتاج إليه ويُبقي عند كل منهم ما اشتراه أمانة إلى أنْ يُكمل جولته، فيكتري «طنبرًا» لجمع ما اشتراه ونقلِه إلى مكان وقوف العربة التي ستنقله هو وبِضاعته إلى أقرب بلدة من قريته، ثمَّ يكمل النّقل على ظهور الدّواب.
وفي أحد الأيّام، وبعد إنهائه جولته المعتادة، وكان قد اشترى حاجات الدكّان التي جاء لشرائها، إذا بسِلعة، تُلفت نظره، معروضة أمام أحد المتاجر من غير عملائه. ولما رآه صاحب المتجر واقفًا يتأمّلها دعاه إلى الدّخول وأخذ يشرح له محاسن هذه السِّلعة الجديدة، وأنّها ستصبح قريبًا ممّا يحتاج إليه كلُّ منزل. وكان الشّيخ صبحي، بنباهته قد اقتنع بأنّها ستصبح من الضروريات في مدة وجيزة جدًّا. ولكن، ما العمل إذ لم يبقَ معه من المال سوى ما يكفيه كلفة العودة إلى قريته. فحاول التنصّل، ولكنّ التّاجر الذي أدرك، بخبرته الطّويلة، أنّها أعجبته راح يزيده ترغيبًا فيها من دون أن يعرف سبب تردّده.
عندئذٍ قال الشيخ صبحي: يا صاحبي إنّي مقتنعٌ فعلا بجدواها، ولكنّني قد أنفقت كلّ ما كان لديّ من مال ثمنًا لما اشتريته من البضائع، ولولا ذلك لاشتريت منها كمية لا بأس بها.
قال التّاجر: سأمهلك مدّة أسبوع لتسديد الثمن مقابل رهنٍ ضامن.
قال الشّيخ صبحي: أنا ابن قرية نائية وليس بإمكاني العودة إلّا بعد نحو الشهر من اليوم.
قال التّاجر: لا بأس ما دمت ستترك عندي ما يضمن لي حقي.
قال الشّيخ صبحي: ليس عندي ما يضمن دينك سوى عهدي وثلاث شعرات من لحيتي، فإذا وافقك هذا فأرجو أن تعطيني منديلًا نظيفًا يحفظهن ويحميهن.
فوجئ التّاجر بهذا العرض إذ لم يسبق له أن سمع بمثله أبدًا. وبعدما صمت قليلًا قال: إنّي أتوسّم فيك، أيّها الشّيخ، رجلا يحفظ العهد والوعد ولذا فإنني أقبل ضمانتك ومن دون تحديد سقف للكميّة التي تريد شراءها، وإليك المنديل الذي تطلب.
أخذ الشّيخ صبحي المنديل وبسطه فوق مكتب التاجر، ثم نتف ثلاث شعراتٍ من لحيته الواحدة تلو الأخرى وبكلِّ تأنٍّ ووضعهنّ على المنديل وطواه عدّة طيَّات بحيث تُحفظ الشّعرات جيدًا، ثم ناوله للتّاجر راجيًا إيّاه أن يضعه في مكانٍ آمنٍ ونظيفٍ، قائلًا: سيكون موعدنا بعد شهر من اليوم، إن شاء الله.
غادر الشّيخ صبحي المدينة ومعه ما اشتراه، بما فيه كميّة من تلك السّلعة الجديدة. وبعد شهر كامل من ذلك اليوم عاد إلى صيدا وكان أوّل تاجرٍ زاره هو من رهن عنده الشّعرات الثّلاث. وبعدما حياه طلب منه المنديل، ولما تأكّد من وجود الشّعرات وجودة حالتهنّ عبّر له بعدة كلمات عن شكره له وامتنانه على محافظته عليهنّ، ثم نقده قيمة الدّين بالكامل، واعدًا إيّاه بأن يصبح واحدًا من عملائه.
سمع أحد أبناء قرية مجاورة لقرية الشيخ صبحي بهذه الحكاية. فذهب إلى ذلك التّاجر وطلب شراء كميّة من بضائعه بالدّين. ولمّا سأله التّاجر عن الضّمانة أمسك بعدّة شعرات من لحيته ونتفهنّ ومدّ يده ليسلّمه إياهنَّ. ولكن التّاجر لم يتناولهنّ وأبلغه برفض طلبه رفضًا قاطعًا وبأنّه يريد الثّمن نقدًا وعدًّا.
فسأله قائلًا: لقد سبق لك أن قبلت الضّمانة عينَها من الشّيخ صبحي ولم تكن تعرفه من قبل، فلماذا ترفضها مني؟
فأجابه التّاجر: أجل لقد حصل ذلك، ولكنّك لست كالشّيخ صبحي، وإنّي متأكدٌ من أنّني إذا ديّنتك فلن تعود إليَّ أبدًا.
قال: وما جعلك تعتقد هذا؟
أجاب: لما رأيت كيف يحترم الشّيخ صبحي شعرات لحيته، أيقنت أنّه رجلٌ صادقٌ يحفظ العهد والوعد. بينما لم تتوانَ أنت عن نتفٍ عشوائيٍّ لعدة شعرات، وكأنك تقلع الحشيش البرّي من أرضٍ زراعيةٍ صالحةٍ لترميَه بعيدًا عنها. ولذا أرجوك أن تشتري ما تريد من إيٍ من تجّار المدينة الآخرين.
[1] الأسماء الواردة في هذه الحكاية مستعارة.