حوارٌ مع القلم
خاطبني قلمي يومًا، قائلًا: يا سيّدي، لقد مضى على ريشتي ما يناهزُ نصف قرنٍ من الزّمن وهي تخطُّ أرقامًا يابسةً جامدةً لا حياةَ فيها، ألا يحقُ لها، بعد هذه العقود، أن ترسِمَ حروفًا تُصاغُ كلماتٍ ذوات معانٍ وصور؟
فأجبتُه: يا صديقي ورفيقي على دروبِ هذه الحياة الدنيا، لولا العَشَرةُ والمِائةُ والألفُ لما كان لنا، أنا وعائلتي، طعامٌ يغذّي أجسادَنا وشرابٌ يُنعشُها ومنازلُ نأوي إليها وننعمُ بالسّكينة فيها.
قال: لا شكَّ في ذلك، ولكن بقدرِ ما يحتاجُ الجسدُ إلى الغذاءِ المادِّيِّ، تحتاجُ النّفسُ إلى غذاءٍ روحيٍّ تُعطيها إيّاهُ الكلماتُ الطّيّبةُ، ولا يقلُّ أهمّيّةً عن المادِّيّ.
قلت: والأرقامُ، أيضًا، أساسُ كثيرٍ من العلومِ والصّناعات التي قدّمت، وتقدِّمُ، لنا الوسائلَ المتعدِّدة الأشكال والأنواع، التي تسهِّل اليوم سُبلَ عيشِ البشرِ على أديمِ هذه الأرض.
قال: ولكِن، ألا ترى يا سيّدي، أنّ تلك العلوم قد أوجدتْ أيضًا وسائلَ عديدةً قتلت الإنسان والحيوان، وأفسدت الغرْسَ والزّرعَ والتُّرابَ والماءَ والهواءَ، ودمّرت الحجرَ، ولم تزلْ؟
قلت: هذا صحيحٌ، ولا أحد يُنكِر أنّ لكلِّ شيءٍ حسناتِه وسيئاتِه، سواءٌ ممّا خلقَهُ اللهُ أم صنعه الإنسانُ، فالشَّمسُ التي تُنيرُ بأشعّتها النهارَ قد تحرقُ حرارتُها الأبدانَ، والماءُ الذي يُنعشُ الأجسادَ قد يُميتُها غرقًا. والسُّمُّ قليلُه دواءٌ وكثيرهُ فناءٌ. والاختراعاتُ والاكتشافاتُ الحديثة إن استُخدِمت للخير نفعت، وإن وُجِّهت للشّرِّ قتلت ودمّرت.
قال: أجَل، وهنا يكمنُ دورُ غِذاء الرّوح. فإنْ زُرِعتْ ونَمَت في النُّفوسِ بذورُ الكلمةِ الطّيّبة، تغلّبَ جوهرُ الخيرِ فيها على الشّرِّ وعمَّ الأرضَ السّلامُ والأمنُ والأمانُ. أمّا إنْ خبُثت البذورُ فسيخرجَ منها ماردُ الشّرِّ ويحوّلَ الأرضَ جحيمًا لا يُطاق.
قلت: نِعْمَ الرأيُ الصّائبُ بما نطقتَ يا صديقي الصّدوقَ، فها قد حانَ وقتُ التّقاعدِ، لا القعود، فإنّي أعدُكَ بأنّني، فيما تبقّى لي من العمرِ المقسومِ بمشيئةِ الله تعالى، ومن دونِ أن أهجرَ الأرقامَ أو أتخلّى عنها كليًّا، فسأُفسِحُ لك الحيّزَ الأكبرَ لبناءِ كلماتٍ، تَزرعُ الخير في النفوسِ، وتُحاربُ فيها الشّرَّ، أحجارُها أحرفٌ طيّبَةٌ، تتمتّع برسمِها ريشتُكَ الوفيّة. فبشِّرْها وهيِّئْ لها المِدادَ الكافي.