رسالة من التاريخ

رسالة من التاريخ

إلى السيد رئيس الجمهورية اللبنانية

عندما قرأت نصّ رسالتك الأخيرة[2] إلى مجلس النواب، لم أكن أتوقع، كما ظنَّ بعضهم، أن أقرأ فيها، ولو إشارة واحدة إلى نيّتك في التنحّي، لأنّ شهوة السلطة، وحبّ المراكز والكراسي والألقاب، يقفان دون ذلك حاجزًا منيعًا. وما فهمته من مضمون تلك الرسالة، المصاغة بأسلوبٍ إنشائيّ مع بعض الأخطاء اللغوية، مما لم تقله بصراحة، هو أنّك تريد إلغاء تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الوزارة، كي لا تُحَمَّل وحدك مسؤولية التعطيل، استنادًا على قاعدة «ما خلّونا»، أو ما شابهها من عبارات التنصل من المسؤولية التي من واجب الرئيس القوي تحمّلها. علمًا بأنّني أعتبره، هو أيضًا، شريكَك في تلك المسؤولية.

فإن كنت تعتمد، بقاعدتك المذكورة، على ضعف ذاكرة الشعب، فتأكّد من أنْ ليس للتاريخ وحده ذاكرةٌ تحفظ وتسجل الأحداث والأقوال، فبين اللبنانيين أيضًا كثيرون ممن لا ينسون الحسنة والسيئة.

وكمواطنٍ عاديٍّ، أُرجو أن تعلم بأنّه لا يزالُ عالقًا في ذاكرتي وفي دفاتري، الكثيرُ مما تسبّبتْ لنا به أعمالُك من الأذية، مذ كان سعد الحريري لم يزل طفلًا. وسأكتفي بالتالي منها، ولكن من دون التطرق إلى ما قيل عن استقبالك جيشَ شارون على أبواب بيروت يوم احتلّها في العام 1982:

أولًا: بعدما تحقّق الرئيس أمين الجميل، في العام 1988، من عدم إمكانيّة تجديد ولايته، وبالرغم من وجود حكومة، لا مستقيلة ولا مُقالة، كلّفك برئاسة الحكومة العسكرية التي بُتِرت باستقالة نصف أعضائها، فور صدور مراسيم تعيينهم. فرُحتَ تسعى لدى الرئيس حافظ الأسد لتسهيل انتخابك خلفًا للرئيس الجميل. والكثير من اللبنانيين ما زالوا يذكرون تلك الرسالة، التي نشرتها جريدةُ السفير في حينه، والتي بعثت بها إليه تستجديه كرسي الرئاسة، فتكون بالمقابل «جنديًّا في جيشه».

ثانيًا: ولمَّا تحقّقتَ من عدم اكتراث الرئيس الأسد لما سألت أو عرضت، أعلنت، في الرابع عشر من شهر آذار 1989 ما ادعيت يومها أنّها «حرب التحرير من السوريين»؛ فكانت البداية بأن قتلت مدافعُك، في صباح ذلك اليوم، في ساحة اليونيسكو في بيروت وحدها، عشراتِ اللبنانيين، من المدنيين والتلاميذ المتوجهين إلى مدارسهم. بينما ادعى أتباعك بأنّها كانت مدافع ميليشيا «القوات اللبنانية. ثم رُحت توزّع صواريخك على سائر الأحياء والمناطق التي كانت تسمّى «الغربية». ولمّا طاول ردّ أحد المليشيات، التي كانت تسيطر على تلك الأحياء والمناطق، أحدَ خزّانات الغاز في أطراف برج حمود، أطلقت مقولتك الشهيرة: «التعتيمُ بالتعتيم، والتعطيشُ بالتعطيش»، فقطعتَ الكهرباء والماء عن أحياء بيروت «الغربية»، لما لا يقلُّ عن الأشهر التسعة. فكانت نتيجة حربك هذه الكثير من القتلى والجرحى وتدمير العديد من الأبنية السكنية والمتاجر…

ثالثًا: عندما عجِزتَ عن «طرد السوريين» حوّلت نيران أسلحتك باتجاه المناطق التي كانت تسيطر عليها ميليشيا «القوات اللبنانية»، حلفاء الأمس، بما عُرف بحرب «الإلغاء». ولمّا طالب رأس الكنيسة، التي تدّعي انتمائك إليها وحرصك على مصالحها، البطريرك صفير، رحمة الله عليه، بوقف ذلك التقاتل، بعثتَ إليه مجموعةً من أحقر أزلامك، الذين لم يكتفوا بالعبث بموجودات مقرّه في بكركي، بل وجهوا إليه، أيضًا، أسوأ الإهانات والتصرفات المخزية…

رابعًا: وبنتيجة عدم اعترافك باتفاق الطائف، رفضت تسليم القصر الجمهوري والقطعات المسلحة التي كنت تتحكم بمصيرها، بالحُسنى، إلى السلطة التي انبثقت عن ذلك الاتفاق، بالرغم من علمك بأنّ قوتك العسكرية أضعف من أن تقاوم القوة العسكرية السورية التي كُلّفت بتطبيق الاتفاق المذكور. فكان أن تخلّيت، بعد سبع وأربعين دقيقة صمود، لا عن تلك القطعات والقصر فقط، بل عن بناتك وزوجتك أيضًا، وهربت إلى السفارة الفرنسية. فأسفر تعنّتُك هذا عن مئات القتلى والجرحى، من العسكريين، الذين آمنوا بطروحاتك وصدّقوا تعهداتك، بنفوس طيّبة.

خامسًا: ومنذ عودتك من منفاك في باريس، وحتى ما بعد تسنّمك كرسي الرئاسة، وأنت تُصمُّ آذاننا بتعهدك بالإصلاح والتغيير، فحصدنا، عوضًا عنهما، الإفلاس والتفقير والتهجير.

سادسًا: وبعد أول انتخاباتٍ نيابيةٍ تلت تلك العودة الميمونة، أبرمت ما سُمّي ب«تفاهم مار مخايل»، مع «حزب الله»، حليف سوريا، اللذين كنتَ تدّعي عداوتهما، وبأنّك سعيت إلى استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي من مقتضياته، حلّ جميع المليشيات، بما فيها «حزب الله»، وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية، وبانسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية.

سابعًا: لقد فرَغتْ كرسي رئاسة الجمهورية لسنتين ونصف السنة، لأنّ حلفاءك عطّلوا انتخاب خلفٍ للرئيس ميشال سليمان، كرمى لعيونك أنتَ أيها الرئيس القوي.

ثامنًا: ولم أنسَ بعد، تلك الحكومات التي عُطِّل تشكيلُها، كرمى لعيون صهرك؟ بدءًا بتأخير تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري إثر الانتخابات النيابية في العام 2009، لما يقارب الخمسة أشهر. ثم تأخير تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في العام 2011، لما يقارب الخمسة أشهر أيضًا. ثم حكومة الرئيس تمام سلام، في العام 2014، لما يزيد عن الأحد عشر شهرًا. وحكومة الرئيس سعد الحريري الثالثة، في العام 2018، وعلى الرغم من أنك اعتبرتَها أولى حكومات عهدك، فقد تأخر تشكيلها أكثر من ثمانية أشهر. واليوم وها قد مضى على انفجار مرفأ بيروت، وعلى استقالة الرئيس حسان دياب، ما يزيد عن تسعة أشهر، وعلى تكليف الرئيس الحريري ما يزيد عن الأشهر الستة، فقد رهنتَ تشكيلَ حكومته هذه، بما تسمّيه «الآلية الدستورية» في التشكيل، ناسيًا أو متناسيًا أنّ لبنان قد أصبح بلدًا مفلسًا، وأن اللبنانيين أصبحوا من أفقر شعوب العالم. فأيهما أهمّ يا «أبا الكل»، «الآلية الدستورية» أم الشعب والبلد؟

فلبنان الذي كان جنّة الشرق، قد تحول في عهدك إلى جهنم، التي وعدتنا بها، فماذا تنتظر بعد كي تتنحّى؟ أمّا إن كنت ترى أنّ هناك ما هو أسوأ له من جهنم، فأرجوك أعلمنا كي لا نحلم بالخلاص من نارها.

واذكر دومًا، يا فخامة الرئيس، أنّ التاريخ لا يمنعه الخوفُ من حليفٍ أو تابعٍ أو نسيبٍ، مهما عظمت قوته، من أن يدوّن في دفاتره أعمال السابقين، سواء كانت قد رفعت الشعب والوطن إلى الجنّة، أم أوصلتهما إلى جهنم.

والتاريخ لا يتملّقُ ولا يرحم.


[1] نشر هذا المقال في مجلة المستقبل الكندي – مونتريال- عدد الأول من حزيران / يونيو 2021 – السنة الخامسة. وقد كنت أنوي التوقف عن كتابة المقالات في هموم الوطن، ولكن تأخير تشكيل الوزارة في لبنان لما يقارب الأشهر العشرة، ما أظنّ أنه مفتعلًا، دفعني لكتابة هذا المقال.

[2] بتاريخ 18/5/2021.