الشيخُ والحقنَةْ

إبّان إحدى دورات انتخاب أعضاء مجلس النواب في لبنان، وقد كانت سنوات عمري لم تكن بعد تسمح لي بالاقتراع، سألت والدي، رحمه الله، قلت: على الرغم من أنّ عهد العبوديّة قد ولّى منذ زمن، فإنّني ألاحظ أن سلوك الكثير من الناخبين تُجاه المرشحين، يشبه إلى حدٍّ ما سلوك العبد تجاه سيده. فما الداعي لذلك يا أبتي؟

فأجابني قائلًا: سأروي لك يا بنيّ الحكايتين التاليتين، وعليك أنت أن تستخلص العبرة منهما بما أصبحتَ عليه من النُضج والقدرة على الفهم السليم.


الرواية الأولى، عن واحدٍ ممّن يصنّفون من الوجهاء:

كان معظم رجالات جبل لبنان، في القرن التاسع عشر، كثيرًا ما يرفضون الكشف عن سوءاتهم أمام الطبيب المعالج، ومهما كلّفهم الأمر، لأنهم كانوا يعتبرون ذلك إهانة لهم. وبقدر رفعة مقامه كان واحدهم يزداد تشددًا في ذلك.

وكانوا، كما تعلم يا بنيّ، ينقسمون إلى طبقاتٍ على رأسها أمير البلاد، فأمراء العائلة الحاكمة، فالأمراء بالوراثة فالمقدّمون و«البكوات[2]» و«المشايخ». أمّا الإقطاعيّون فكانت ألقابهم من ألقاب عائلاتهم التاريخية. بينما كان العامّة ينقسمون حسب القوة المادية والعددية للعائلة التي ينتسبون إليها.

ويروى أنّ أحد «المشايخ» أصابه مرضٌ من أنواع القولنج، ما جعله لا يستطيع إخراجَ الثَّفِلِ من أمعائه. ولمّا عاده الطبيبُ رأى أن علاجه الوحيد هو الحُقنة في الدُبُر. ولكنّ الشيخ رفض ذلك رفضًا باتًّا، على الرُّغم من أنّ الطبيب حذره من أنّ في رفضه هذا خطرًا على حياته.

ولمّا رأى المقرّبون منه أنّ حاله الصحية في تراجع مستمرّ، صار كلٌّ منهم يبحث عن الحلّ المناسب. إلى أن قال أحدهم: لقد وجدت الحلّْ.

فسأله آخرُ: وما هو؟

قال: لا بدَّ من رسالة من أمير البلاد تحمل أمرًا منه إلى الشيخ بوجوب إجراء الحقنة.

قال آخر: ومن سيذهب إلى الأمير ليطلب منه ذلك؟

قال صاحب الرأي: لا لزوم لذهاب أيّ منّا، فالأمر لا يستدعي أكثر من تمثيلية بسيطة.

وبعد نحو الساعة، وصل إلى باحة الدار فارسٌ يمتطي فرسًا مطهّمًا، ويرتدي ثيابًا تشبه ما يرتديه رسلُ الأمير، ويحمل بيده رسالة ملفوفة على شكل رسائل الأمير. ولمّا ترجّل، طلب الدخول على الشيخ في الحال.

فأُدخل عليه من دون تأخير، وبعد إلقاء السلام، فتح الرسالة وقرَأْ:

من مقام أمير البلاد إلى عزيزنا الشيخ «فلان»، بلغنا أنّك تعاني من مرض القولنج، وأنّ العلاج الذي وصفه الطبيب هو الحقنة في الدُبُر، وأنّك ترفض ذلك. وعليه فقد أمرْنا رسولَنا، حاملَ هذه الرسالة، بأن يقوم بإجرائها لك فورًا كما وصفها الطبيب.

فقال الشيخ مكرهًا: علينا طاعة الأمير وتنفيذ أمره. ثم أَوْعًزَ إلى خادَمِه بتحضير ما يلزم.

فبدأ «الرسول» بتنفيذ المهمّة. ولكن يبدو أنّه إمّا لم تكن لديه الخبرة الكافية، أو أنّ هيبة الشيخ جعلته يُخطئ بضع مرّات في إدخال الحقنة. فإذا بالشيخ، وبدلا من أن يعود إلى الرفض، أو أن يطلب استبدال الرسول بمن هو أقدر منه، فقد أخذ الأمر بالفكاهة، قائلا: توقف أيها الرسول، وأعد قراءة الرسالة، كي نتحقق من صيغة الأمر، فهل هو إجراء الحقنة، أم فتح دُبرٍ ثانٍ في قفانا؟


والرواية الثانية، عن واحدٍ من عامّة الشعِبْ:

يُروى أن أحدهم، وكان يدعى «مبروك»، كان يعمل «خادمًا» لدى أحد «البكوات». وكان «مبروك» هذا لا يقوم بأي عملٍ ما لم يُؤمر عليه، حتى وإن كان يخصّه هو شخصيًّا، إذ يبدو أنه نشأ وتربى على ما يشبه العبودية، على الرّغم من أنّه لم يكن عبدًا.

ويروى أنّه في إحدى الليالي، استيقظ والعطش قد جفّف فمَهُ ولسانَه. وعوضًا عن أن ينهض من فراشه ليذهب إلى حيث يطفئ عطشه، أخذ يردّد بصوت مسموع، قائلا: «يا من يقول لي: قمْ اشربْ». ويشاء القدر أن يسمعه سيدُه. فناداه بصوت الآمر بالحضور: «مبروك».

فانتصب «مبروك» على قدميه وسارع إلى الوقوف بين يدي سيده، وهو يقول: «نعم سيدي».

فقال «البك»: اذهب واحضر كوبًا من الماء.

وما هي سوى لحظات، حتى عاد «مبروك» يحمل الكوب بيده ويقدّمه إلى سيده. فقال له، هذا الأخير: اشرب ما فيه فورًا.

وقبل أن يشرب، قال: أمركَ سيّدي. ثم شرب حتى ارتوى. عندئذٍ قال له سيده: عُد الآن إلى فراشك.

رحمة الله عليك يا والدي الحبيب، لقد فهمت ما قصدت، فمن يسعى وراء المراكز، أو المحافظة عليها، أو من كان فقيرًا جاهلًا، فمن الصعب عليه أن يكون حرًّا في رأيه، لأنه اعتاد التزلّف أو العبودية. وكما يقول المثل الإنكليزي: «رجال المناصب عبيد للملوك والشهرة والعمل».

ورحم الله من قال: «لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات».


[1] من حكايات الآباء والأجداد.

[2] جمع، بك، وهو لقبٌ تركي يعود إلى زمن السلطنة العثمانية. ولم يزل متداولا في كثير من البلاد العربية.