في لبنان أيضًا نريد إسقاط النظام
في الربع الأخير من العام 1966 تعرّض بنك «إنترا» لأزمة سيولة حادة (قناعتي أنها كانت مفتعلة)، اضطرّته إلى التوقّف عن الدفع، ومن ثم تسليم سجلاته الحسابية إلى القضاء المختص[2]، عملًا بالقوانين اللبنانية.
هذه الأزمة ولّدت الذعر في قلوب اللبنانيين جميعًا وغدت موضوع أحاديثهم اليومية. فهذا المصرف كان من أكبر المصارف اللبنانية وأوسعها انتشارًا في داخل لبنان وخارجه.
وفي أحد تلك الأيام صادف أن التقيت مرةً بضعةً من أترابي في منزل أحدنا، وكان والده الحاضر الوحيد ممن يكبرنا سنًا. هذا الوالد كان المرحوم رضا بك التامر، الذي لم يكن فقط من كبار القضاة، بل أيضًا من كبار رجالات لبنان.
دار الحديث بيننا في موضوع الساعة، فأخذ كل منا يسترسل في شرح خطته لإصلاح النظام في لبنان، وخاصة في حقل الاقتصاد والمال، وذلك الكبير صامتٌ يصغي إلينا. ولما أفرغ كل منا جعبته، سألَنا قائلًا: هل فرغتم جميعًا؟
قلنا: نعم.
قال ما معناه: أصغوا إليّ جيدًا يا أبنائي، إنّ هذه القطعة من الأرض عندما أُريد لها أن تكون دولةً، اسمها لبنان، كان القرار أيضًا أن تكون مزرعة على طراز مزارع الأيام الغابرة، لا على الطراز الحديث الذي تقرأون عنه في الكتب والصحف والمجلات، وخلاف ذلك لن تكون.
رحمة الله عليك يا رضا بك، لو كنت ما زلت على قيد الحياة لرأيت أن نبوءتك لم تتحقق، فلبنان لم يعد حتى مزرعة، بل تشرذم إلى عدة مزارع يتحكم بكلٍ منها زعيمٌ سياسيٌّ اقطاعيٌّ، حديثُ الأساليب، عصريُّ الوسائل. هؤلاء الزعماء يجمع بينهم قاسمٌ مشتركٌ، هو التسابق والتصارع لاقتسام ما تبقى من «جبنة» هذا البلد. أمّا مصلحته فلا يعنيهم منها سوى كونها مادة للتشدّق، من على أجهزة الإعلام، بأنّهم حماتها. هم يسوقون المواطنين كما يسوق الرعاة القطعان، لكنَّ عِصِيَّهم هي الطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة، يتلاعبون بها بعقول العامة. يساعدهم في هذا طبقة من المنتفعين، معنويًا وماديًا من مناصبهم التي فُرِضوا فيها، أُجَرَاء يأتمر كلٌّ بما تقتضيه مصلحة زعيمه، لا بما تقتضيه مصلحة وطنه. فغدت أعمال الإدارات والمصالح العامة تسير من دون رقيب أو حسيب، وتفشّى الفساد حتى في زواياها. وإذا وُجد، بالصدفة، رئيسٌ من «مخلفات» أولئك الذين كانوا يقدّمون مصلحة وطنهم على مصالحهم الشخصية، وقضت ظروف العمل أن يعاقِبَ مرؤوسًا ارتكب مخالفة ما، وكان هذا المرؤوس على غير مذهب ذاك الرئيس، أو كان «مدعومًا»، عندئذٍ تقوم البلاد ولا تقعد بحجة أن ذلك الرئيس اعتدى على مصلحة طائفة أو مذهب ذلك المرؤوس أو زعيمه، وتنبري أجهزة الإعلام، التابعة لهذا الزعيم، بمهاجمة ذلك الرئيس دفاعًا عن مصالح «المذهب»، الذي تنطق باسمه.
فمن سُمُّوا، زُورًا، «زعماء» أو «مسؤولون» في هذا البلد «التعيس» بهم، عوضًا عن أن يُعيدوا بناء البشر قبل الحجر، مما دمرته أحداث العام 1975 وما تلاه، تراهم يعيثون فيه فسادًا، يعطّلون إداراته ومؤسساته ومصالحه، إما خدمة لأجنبي أو في سبيل مقعدٍ زائل. أغرقوا لبنان واللبنانيين بديونٍ تفوق الناتج المحلي العام بما يزيد عن 150%، ما جعله في المركز الثالث عالميًا، بهذه النسبة. وعلى الرُّغم من هذا فما من يهتمُّ منهم بغير الحصول على حصته من تقاسم ما بقي من فُتات اقتصاده المهترئ. كميات الغاز التي اكتشفت في مياهه الإقليمية لم تزل حقولها تعاني من مخاض البحث في «كيف السبيل» إلى استثمارها، بينما نرى قبرص و«إسرائيل» قد بدأتا بالاستثمار منذ ما يزيد عن العامين. وإلى أن يتفقوا على تقاسم أرباحها، ثمَّ تنظيم عقود استثمارها، قد يكون ذلك الدين قد بلغ المرتبة الثانية أو حتى الأولى. وحمانا الله من الإفلاس.
إنّي أحسدكُم، يا رضا بك، أنت ووالدي وأبناء جيلكم إذ اختاركم الله قبل أن ترى أعينُكم هذه الحالة المزرية التي تعمُّ لبنان بأكمله، هذا البلد الذي جاهدتم «لتحريره» من براثن المستعمر. فيا ليتكم تركتمونا مُستعمرين، لأنّ من وصلت الأمانة إليهم سيجعلون لبنان في خبر كان. وليته اختارني أنا أيضًا معكم.
منذ أكثر من ربع قرنٍ، أضافوا في مقدمة الدستور فقرة تقول: «الغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية». وللأسف أصبحت، هذه الخطة، في عالم النسيان، بل تحولنا من «الطائفية» إلى «المذهبية». وباقي نصوصه تُفسر حسب الحاجة، لا على قاعدة: «في المسألة قولان»، بل «أقوال» خدمة لمصالحهم. كما ابتدعوا ما سموه: «الميثاقية»، و«الديمقراطية التوافقية» و«الأمن بالتراضي»، وغيرها من «مبادئ» شأنهم الوحيد منها، تعطيل وتفريغ المؤسسات لغايات في أنفسهم. لا سامحهم الله.
لقد أصبح لبنان من أفشل دول العالم بسبب هذا النظام الفاسد، ألم يحن الوقت بعد لإسقاطه واستبداله بنظام الوطن الواحد، لا الدويلات الطائفية أو المذهبية؟؟
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا – العدد 421 تاريخ 10/8/2018.
[2] كان هذا في 14/10/1966.