عشق التقاتل في سبيل الآخرين
بعد أن تغلب القيسيون على اليمانيين، في معركة عين دارة في 1711م.، ولما لم يكن في مصلحة الحاكم أن تكون البلاد عصبية واحدة أو حزبًا واحدًا عمد الأمير حيدر إلى تشجيع انقسام جديد في بلاد الجبل، وهو الانقسام الشقراوي الصمدي نسبة إلى الأسرتين اللتين إلى الآن تسكنان في بلدة عماطور من قرى الشوف المعني. وعرف هذا الانقسام الثاني (بالغرضية) فانقسم اللبنانيون إلى غرضية شقراوية وغرضية صمدية. وقد تناول هذا الانقسام المدة الباقية من حكم الأمير حيدر وطوال مدة الأمير ملحم إلى أن ولي الأميران أحمد ومنصور الشهابيان معًا، فنشأ انقسام جديد عرف بالجنبلاطي واليزبكي نسبة إلى آل جنبلاط وإلى آل يزبك جد آل عماد. فتقمصت الغرضية الجنبلاطيةُ الشقراويةَ وتقمصت الغرضيةُ اليزبكيةُ الصمديةَ باستثناء بعض العيال[1].
وفي خمسينيّات القرن التّاسع عشر وقع خلافٌ بين رجلين من عائلتين كبيرتين تربط بينهما روابط النّسب وتقيمان في قرية واحدة من قرى جبل لبنان، ولكنهما من غرضيتين مختلفتين، وكان السّبب تافهًا جدًا إذ إنّ أحدهما كان يحرقُ أشواكًا في أرضه فخرجت النّار من تحت سيطرته وامتدّت إلى أرض جاره فأحرقت إحدى الشجرات فيها. وتطوّر هذا الخلاف ليصبح تقاتلا بين أبناء العائلتين لم يوفّر فيه الطّرفان استعمالَ أيّ نوع مما كان بحوزتهما من السلاح، وفي ساعات معدودات سقط أحد عشر قتيلا من كلٍّ من الفريقين بالإضافة إلى عدد من الجرحى. ولكنَّ المفاجأة جاءت من قرية مجاورة بأن حمل أبناء إحدى عائلاتها أسلحتهم بغية التوجه إلى ساحة التقاتل، ومن دون معرفة سبب هذا التقاتل أو هدفَه، لنُصرة أصدقائهم أبناء إحدى تينك العائلتين، ثمّ ما كان من أبناء عائلةٍ أخرى من تلك القرية، والتي تربطها أيضًا صداقة مع أبناء العائلة المقاتلة الثانية، إلّا أن وجَّهوا بدورهم أسلحتهم نحو أبناء قريتهم قائلين لهم: «عوضًا عن أن نتكبّد مشقّة الانتقال كي نتقاتل في ساحة المعركة، فلنتقاتل هنا نُصرةً لأصدقائنا هناك».
ولكن العناية الإلهية حالت دون سفك المزيد من الدماء، عندما بدأت ذخائر طرفي التقاتل بالنّفاد، فتمكّن عقلاء ووجهاء الجبل من الفصل بينهما وإيقاف القتال. ثم أجلوهما إلى القرى المجاورة، إلى أن تمكنوا من عقد الصّلح بينهما.
وفي التحقيق عمّا دعاهم إلى إطلاق النار، أجاب كلٌّ من أبناء العائلتين بأنه لمّا رأى أبناء عمومته يطلقون النّار نحو أبناء العائلة الأخرى فعل هو الشّيء نفسه من دون أن يعرف السّبب.
يقول سبحانه وتعالى: {إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11). فهل سنغير نحن يومًا ما بأنفسنا؟؟؟؟
[1] أعمال غير منشورة في كتاب لعارف أبو شقرا – تاريخ جبل حوران – تحقيق أسامة كامل أبو شقرا – بيروت – 2011.