ذياب وأبو زيد

ذياب وأبو زيد[1]

ما زالت حافظتي تعي شيئًا من ذكريات حداثتي قبل الحرب الكبرى[2]. أيام كانت معظم السوامر تعمر بالمألوف من قصص ذلك العهد، والإعجاب بأبطاله وغريب أفعالهم من أمثال عليّ الزيبق، وعنترة بن شداد، والزير سالم، وذياب بن غانم، وأبي زيد الهلالي وما أشبه. وما أزال أذكر كيف كانت المناقشات والمناظرات تقوم بصدد هؤلاء على قدم وساق. وكيف كان الناس يذهبون المذاهب في التحزب لهؤلاء الأبطال: جانب يؤيد هذا، وجانب يؤيد ذاك، وكثيرًا ما كانت المناظرة تتحول إلى جدال، ثم إلى خصام. وقد كان بعضها في بعض الأحيان وفي بعض الأماكن يتحول إلى عراك عنيف يلجأ فيه أولئك إلى الشتم والقذف، فالضرب والطعن.

وأكثر ما كانوا ينقسمون في تحزبهم على أبي زيد وذياب، يرى فريق منهم لأبي زيد ميزة على ذياب لدهائه وصبره وسعة حيلته. ويعتقد آخرون أفضلية ذياب لشجاعته وصدق رجولته؛ ولفرسه المشهورة وبراعته في الكر والفر.

هذا النوع من الحياة كان مألوف العهد الماضي، بل مألوف أقرب العهود الماضية إلينا. ولعل بعض الأنحاء ما تزال تألفه لأنها لم تتناولها الثقافة الجديدة فلم يتح لها أن تستبدل به نوعًا آخر.

لسنا نختلف في النظر إلى سخافة تلك الحياة، وفي القول إنها وليدة الثقافة البائدة التي لم تعد تصلح لنا ولا تغني عنا. وإننا لا شك متوافقون على اعتقاد أنها أمست بعيدة عن مألوفنا غريبة عما تقتضيه أحوالنا، منافية لمطالب حياتنا. ولسنا نقف منها عند هذا الحد من القول فحسب، بل نذهب إلى أبعد من ذلك. إننا نهزأ بها، ونسخر من الذين عاشوا فيها، ونزدري عقلية الذين ارتضوها، وتحزبوا وتخاصموا من أجلها، وتطاعنوا وتقاتلوا على حسابها.

إننا نأخذ عليهم أنهم أساءوا فهم الحياة، تعادَوا من أجل غيرهم، وتخاصموا من أجل أمور لا تعنيهم، واضطرب حبلهم فلم يكن رأيهم جميعًا ولا كلمتهم موحدة…

ولقد كنا أيام الحداثة الغريرة[3] التي لا تدرك جلال الماضي ولا قِدمِيَّة الأشياء ولا تعرف تأثير الأمس الدابر في اليوم الحاضر، نحسب ذيابًا وأبا زيد موجودين يعيشان في زمننا ذاك، يغيبهما عنا بعد جغرافي لا بعد تاريخي. وكثيرًا ما كنا نتهافت على رؤيتهما في صندوق العجائب الذي ندعوه (صندوق الفرجة) ونعتقد أن الناس إذا شاؤوا دعوهما فحضرا وغشيا السوامر وتزعم كل منهما حزبه وفريقه، أو شاءوا أبقوهما بعيدين متواريين.

ثم يدور الزمن دورته فتتلون مطالب الحياة، ويترقى مقياس النَّيِّقَة[4] في الناس، ويسخر اللون المستجد من اللون المتقادم.

ونعود فننظر إلى أثر الثقافة في الناس فنجد أن الثقافة استطاعت أن تلوّن مطالب الحياة، فعدلت من ظاهر شكلها [من] دون أن تبدل من باطن حقيقتها.

ونجد أن خيال الطفولة الغريرة هو منهاج الرجولة المجربة، ونظريات الحداثة الساذجة تنجلي عن حقائق عملية واقعة.

نجد أن ذيابًا وأبا زيد ما زالا موجودين يعملان عملهما، ويختصم الناس من أجلهما، وتتفرق كلمتهم على حسابهما.

إنهما يغشيان سوامر الثقافات العالية ليمثلا دورًا من أدوارهما السالفة، ويُحْيِيا شيئًا من ثقافتهما البائدة.

أجل. هما نفسهما يعملان بعد أن بدلا زيهما وغيرا اسميهما.

إن عصر النور والسرعة لن يسمح للتاريخ أن يرجئ النظر في أمر هذه الثقافة إلى الجيل المقبل. إنه منذ الآن يسخر منها ويهزأ بالذين تجوز عليهم أفانينها.

 

[1] نشرت في مجلة الأمالي العدد 15 السنة الثالثة 10 جمادى الأولى 1360 الموافق 5/6/1941. وأعدت نشرها في كتاب، أعمال غير منشورة في كتاب لعارف أبو شقرا – تحقيق – الطبعة الأولى – بيروت – 2011.

[2] هي الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918.

[3] المغرورة.

[4] ج، النَّيِّقُ: الذي يبالغ في تجويد أموره، وبخاصة في مطعمه وملبسه.