لكلِّ مجتمعٍ، كبيرًا كان أم صغيرًا، بعضُ العاداتِ والتّقاليد التي تميِّزه عن غيره. كذلك قد يكون له عباراتٌ تجري على ألسنةِ بعضِ أبنائه، في أوقاتٍ أو حالاتٍ معينة. فمنها مثلًا في لبنان، عندما يجدُ أحدُهم نفسَهُ في موقفِ ضَعفٍ أو يصعبُ عليه فيه التّبرير، بخاصّةٍ أمامَ من يفوقُهُ قوَّةً جسديّةً أو سلطةً رسميَّة، فتراه يبادرُهُ بعبارة مثل: «إنتَ مش عارف مع مين عم تحكي»[3]، أو «أعرف بالأول مع مين عم تحكي»[4]، أو بصيغة السؤال: «مشْ عارف مين أنا؟[5]»، أو ما شابه ذلك.
ويُروى أن أحدَهم صعِدَ إلى إحدى مركبات «ترامواي» بيروت عائدًا إلى منزلِه، وبين يديه بطيخةٌ كبيرةُ الحجم. وكان ذلك في إحدى ساعات منتصفِ نهارٍ صيّفيٍّ شديدِ الحرارةِ في أوائل خمسينيّاتِ القرنِ العشرين. وعلى الرُّغم من أنَّ البطاقة التي اشتراها بخمسةِ قُروشٍ والصالِحةَ لمقاعدِ الدرجةِ الثانيةِ فقط، فقد اختارَ مقعدًا في الدرجةِ الأولى حيثُ كانت الكلفةُ عشرةَ قروشٍ. والفرق بين الدّرجتين كان في نوع المقاعد فقط، فمقاعدُ الدرجةِ الثانيةِ كانتْ من الخشب الخالِص، بينما كانت في الدرجةِ الأولى منجدةً بقشِ الخيزرانِ الرفيعِ لتجعلها طريّة بعض الشيء.
ومن سوءِ حظّهِ، أنْ صعِدَ إلى تلك المركبة في المحطةِ التاليةِ، أحدُ مراقبي شركة «الترامواي» ومهمَّتُهُ مراقبةُ تقيُّدِ الرُّكَّابِ في دفعِ الأجْرة، وفي اختيارهم المقاعدَ حسبما تخوِّلُهم البطاقةُ التي بحوزتهم. فلمَّا وصل إلى حيثُ يجلسُ «صاحب البطيخة» طلبَ منه إبرازَ بطاقتِه. وبعد الاطِّلاع عليها قال له: يا سيّدُ، في جلوسكَ هنا مخالفةٌ، لأن بطاقتَك هذه هي للدّرجةِ الثانيةِ وهذا المقعدُ هو في الدّرجة الأولى.
فما كان من «صاحبنا» إلّا أن أجابَهُ، مع بعضِ التّعجرفِ والتّكبُّرِ، قائلًا: «شووو، ما بتعرف مين أني؟[6]».
فأجالَ المراقبُ فيه ناظريه من أعلى إلى أسفل وإلى البطيخةِ على الأرضِ بين قدميه، ثمَّ قال له: «اليوم هو من أحرِّ أيّام الصّيفِ في بيروتَ وأنتَ تتنقَّل بـ «التّرامواي» وتحملُ بطيخةً كبيرةً جدًّا، فمن عساكَ تكونُ يا…؟؟ » (بنعتٍ على الطريقة البيروتيّة.)
ثم أضاف: «ولكن من حجمِ هذه البطِّيخة أفهمُ أنَّكَ صاحبُ عائلةٍ كبيرةٍ، ولذا لنْ أسطِّرَ بحقِّكَ أيَّ محضرٍ إذا ما عُدتَ فورًا إلى مقاعدِ الدَّرجة الثانية. ويقول المثل يا عزيزي: رحِمَ اللهُ امرأً عَرفَ حدَّهُ ووقفَ عندَهُ».
[1] لقد استبدلتهُ الحكومةُ اللبنانيةُ في أواسطِ ستينيّاتِ القرن العشرين بحافلات تعمل على البنزين، معتقدة أنّه كان سببًا مهمًّا في ازدحام السّير. فكان أن أزالت وسيلة تنقّلٍ شعبيّة تعمل على الكهرباء وصديقةٍ للبيئةِ، على العكسِ من تلك الحافلاتِ التي لم تساهم في تخفيف الازدحامِ بل أصبحت عاملًا مهمًّا في زيادة التّلوث، إلى أن أتلفها الإهمال وعدم التّجديد، فحرمت بيروت من أيٍّ من وسائل النقل العام.
[2] كتبتها في 21/5/2018
[3] أي: أنت لا تعرف من تخاطب.
[4] أي: عليك أن تعرف من تُخاطب.
[5] أي: ألا تعرفُ من أنا؟
[6] أي: ماذا؟ ألا تعرفُ من أنا؟