سبعون عامًا على النكبة
الخامس عشر من شهر أيار (مايو) 1948 يومٌ أسودُ في تاريخ العرب الحديث. بِضعُ مئات الآلاف من أعراقٍ وقومياتٍ مختلفة جاؤوا، من أصقاع الدنيا، بدعمٍ وتسهيلٍ من بريطانيا[2]، إلى فلسطين قلب العالم العربي، أعلنوا في ذلك اليومِ قيامَ دولةٍ لهم على أرضها المقدسة، أسْمَوها «إسرائيل». فثارت «الحميَّةُ العربيةُ» في صدورِ حُكامِ «الدول» العربية وأعلنوا الحربَ على تلك «الدولة».
وبدلًا من أن يقولوا لأبناء فلسطين: «ابقوا في مدنِكُم وقُراكُم ودافعوا عن أرضِكُم بأيديكُم وأسنانِكُم…» قالوا لهم: افسحُوا المجالَ «لجيوشنا» لتطهِّر الأرضَ من رِجسِ أولئك الصهاينة المعتدين، واخرجوا من دياركم لأيامٍ معدودات نُنهي فيهنَّ مهمتنا فتعودوا إليها معزّزين مكرّمين.
وتمرُّ «الأيام المعدودات» لتبلغ اليوم سبعين عامًا، وأبناءُ فلسطين مُشرَّدون في الأرضِ «لاجئون» في مخيماتٍ على أراضي إخوانٍ لهم ومحرُومون من بعضٍ من حقوق الإنسان بحجة «وجوب العودة».
بضعةُ آلاف، من أولئك الشذّاذ الذين اندسوا بين زيتون وليمون فلسطين في سنوات معدوداتٍ، تمكنوا، في تلك الحرب، من التغلب على ما يزيدُ عن الثمانين مليون عربي متجذرين في أرضهم منذ آلاف السنين، فضاعَ الجُزءُ الأكبرُ من فلسطين وكانت «النكبة الكبرى».
فماذا حصل بعد ذلك؟
في العامِ التالي بدأت في سوريا سلسلةُ انقلاباتٍ عسكريةٍ، كان القائمون بها يتّهمون من سبقهم، وعلى التوالي، بالتخاذل ويدّعُون بأنّ غايتَهم الاستعدادُ والتحضيرُ لحربِ تحريرِ فلسطين. ثم تلتها في مصر، والغايةُ هي نفْسُها، ثورةُ 23 يوليو (تموز) 1952، فانفصلت السودانُ عنها، والتي أصبحت اليومَ سودانين. ولم يتخلَّف العراق كثيرًا عن ركب تلك الانقلابات، كذلك السودان واليمن وتونس وليبيا. ورُفِعَت شعاراتُ الوحدةِ العربيةِ، التي لم يعملْ أيُّ حاكمٍ لإتمامها، باستثناء وحدةَ مصر وسوريا التي تمت بأعجوبة، أو قُلْ بالصدفة، ولذا لم تدُمْ طويلًا. واعتمد أولئكَ الحُكّام منطقَ التهاتُرِ والتشاتُمِ والتصنِيفِ بين تقدميّين اشتراكيّين ورجعيّين رأسماليّين، إلى أن وصلنا اليوم إلى مؤمنين وكُفَّار، بعدما أصبحَ التقاتلُ الخُبزَ اليومِيَّ لأبناء المدينة أو القرية الواحدة.
وباسم الاشتراكية التقدمية، أصدروا قوانين «الإصلاح الزراعي» و«التأميم»، فكانت النتيجةُ إفقارَ الشّعُوبِ والأوطانِ. ولكنّهم لم ينفكوا يومًا عن تهديدِ ووعيدِ مُغتصِبي فلسطين.
وراحُوا يشترون الأسلحةَ ويُعِدّون الجيوشَ ويضرِبون طُبولَ الحربِ حتى جعلونا نشعر بأن التحريرَ باتَ قابَ قَوسَين أو أدنى. إلى أن كانت الهزيمةُ الكُبرى الأُخرى في العامِ 1967، عندما تغلّبَ «ثلاثة ملايين» صهيوني على «مئتي مليون» عربي، يا للعار، فاستولَوا على ما تبقى من أرضِ فلسطين وضاعت غزةُ وضفةُ الأردُنِّ الغربيةُ، بالإضافةِ إلى سِيناء وأُقفلت قناةُ السُّويسِ، كما نالوا جائزةً على طبقٍ من فِضَّة اسمُها «هضبة الجولان»، أصعبُ وأعتَى وأهمُّ قلعةٍ طبيعيةٍ في الشرق. فسمّى حُكام العرب هذه الهزيمة «نكسةً». وقال بعضُهم: «انتظرناهم من الشرق فجاءُونا من الغرب»، وقال آخرون: «لقد انتصرنا عليهم إذ أحبطنا مخطّطهم الذي كانَت غايتُه إسقاطَ نظامنا، والنّظام أهمّ من الأرض».
فانتفض «سكانُ الملاجئ والمخيمات» وامتشَقوا السلاحَ قائلين: هي أرضُنا ونحن أولى باستِرجاعِها. فعادَ الأملُ إلى قلوبِنا، ولكنْ للأسفِ لمُدةٍ وجيزةٍ، إذ تسلّلَ سُوسُ السياسةِ إلى صفوفِهم فتفرقوا جماعاتٍ يُسيطرُ على كلٍّ منها واحدٌ من أولئِك الحكامِ. وتحوّلت الأسلحةُ عن هدفِها فوُجِّهت إلى صُدورِ الإخوةِ. وضاعَ الأملُ من جديد.
ثم كانت مسرحيةُ تشرين (أكتوبر) 1973. ودفعت مصرُ بعدها ثمنَ استردادِ سيناءَ معاهدةَ «سلامٍ» مع «إسرائيل» فسُحِبت يدُها من القضية. ثم تحولت البنادقُ العربيةُ أدواتٍ لسلسلةِ حروبٍ يتقاتلُ فيها أبناءُ البلدِ الواحدِ، وبشراسةٍ ما بعدها شراسةٌ، منهم من يعرفُ لماذا يقاتلُ ومنهم من لا يعرفُ، أمّا المستفيدُ فلم يكن سوى الأعداء، وأولهم بنو صهيون.
إلى أن طلعَ علينا من يُبشِّرُنا بأن زوالَ «إسرائيلَ» حتميٌّ كما تنصُّ عليه «الكتبُ» التي تقول بأن «دولةَ اليهودِ» لا تعمّرُ أكثر من سبعين سنةً.
فيا من تعودتُم المُطالبةَ بحقُوقِكُم بالدُّعاء وبالاتكالِ على اللهِ بالكلامِ، ومن دونِ أن تعقِلوا، ويا من تنتظرون من الآخرين أن يمنّوا عليكم ببعضٍ من فتاتها، وبثمنٍ باهضٍ من الكرامةِ والمالِ، فها قد انصرمَ اليومَ العامُ السبعون على تأسيسِ «دولة اليهود»، ولا نرى أيَّ إشارةٍ على قُربِ تفكُّكِها أو حتى على ضَعفِها، بل هذا واحدٌ ممن ظننتُم أنه سيعيدُ لكم بعضَ «الفُتات»، قد أكَّدَ أمسِ «حقَّ» المُغتصِبين في ملكيتهم قُدسِنا[3]. فماذا أنتم فاعلون؟
أمّا أنا فلا أرى فيكم من يستحقُّ نعته حتى بصفة «شبه مسؤول»… ولم يبقَ لي سوى أطفال الحجارةِ، والعُزَّل الذين قدَّموا أمسِ على أبوابِ غزّةَ عشرات الشهداءِ ومئاتِ الجرحى. بارك الله فيهم ولا بارك فيكم.
[1] كتبت هذا المقال بمناسبة الذكرى السبعين لاغتصاب فلسطين، ونشر في جريدة الرسالة – كندا العدد 416.
[2] إبّان انتدابها على فلسطين.
[3] اعتراف دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، بالقدس عاصمة إسرائيل، ونقله سفارة بلاده إليها.