كامل بك والعمامة

كامل بك والعمامة

كان كامل بك ابن خليل الأسعد، رجلًا من كبار رجالات لبنان في الرّبع الأوّل من القرن العشرين. وقد دخل التّاريخ كسياسيٍّ وزعيمٍ لمنطقة جبل عامل في جنوب لبنان إلى أن تُوفِيَ في العام 1924. وخلفه أحمدُ بك، وهو ابن أخيه عبد اللطيف، وصهرُه، زوج ابنته، وقد تولّى رئاسة مجلس النواب اللبناني عدة مرات. وبعد وفاته في العام 1961، خلفه في تلك الزعامة ابنه كامل بك، الذي تولّى أيضًا رئاسة المجلس المذكور لعدّة سنوات، وتُوفِيَ في العام 2010.

وقد روى لنا المرحوم رضا بك التّامر[1]، عن كامل بك، الأكبر، إذ كنّا يومًا في زيارة ابنه خالد أنا وعدد من أترابنا، وكنّا لم نزل في ريعان الشّباب، قال: كان كامل بك يقدِّر ويُجلُّ علماء الدّين كثيرًا ويخصُّهم بالتّكريم والاحترام، وكان إذا ما زاره أحدهم، يحتفي به بما لا يخصُّ به حتّى كبار زوّاره. وكان أولئك العلماء، في تلك الأيّام، يتميزون عن غيرهم من رجال الدّين بعمامة يزيدُها حجمًا طول القماش الذي تُلفُّ به، ما قد يبلغ الأربعين ذِراعًا. وفي أحد الأيّام، وكان البك في قاعة الضّيافة في الطّبقة العلوية من داره في الطّيّبة، جاءه أحد العاملين في الدار، مهرولًا، مُعلنًا أن هناك عالمًا أمام باحة الدّار يتجه نحو بابها. فنهض البك، ومن دون أن يُعطي اهتمامًا لمن كان معه في القاعة، ونزل الدّرج، مسرعًا الى الباحة لاستقبال الزّائر الكبير. فإذا به أمام رجلٍ ذي لحيةٍ وخطها الشّيبُ، يرتدي جلبابًا فضفاضًا، تزيد هامتَه وقارًا عمامةٌ بيضاء كبيرةُ الحجم، يمتطي أتانًا على عادة الزهّاد. وقد بدا للبك أن قدمي هذا الضّيف لم تطآ سابقًا أرض داره، وإلّا لتذكّر معالم وجهه من دونِ إبطاء. وما أن نزل هذا الوافد عن ظهر رَكوبتِه، حتّى أخذ كامل بك بيده وقبّلها، واصطحبه إلى قاعة الضّيافة، وعباراتُ التّأهيل لا تنقطع عن لسانه حتّى دخلاها، حيثُ خصَّه بمقعدٍ ملاصقٍ لمقعده زيادةً في الاحترام والتّكريم. وفورًا أخذ العاملون في الدّار يقومون بواجب الضّيافة. ولأن ذلك اليوم كان من أيّام الصّيف الحارّة، أُحضِرت الماءُ ليشرب هذا الزّائرُ المهمُّ أولًا ثم الظّمآنُ من الحاضرين، وكان صاحب الدّار أحد هؤلاء العطشى، وما أن ارتوى حتّى قال له ضيفهُ العالِمُ، برأسٍ مرفوعٍ وصوتٍ عالٍ: (يا مولانا «هنيقا»)، بالقاف عوضا عن الهمزة. فما كان من البك إلا أن انتفض وانتصب على قدميه، وتوجّه إلى ذلك «العالم» قائلًا: جعلتني أركض لاستقبالك وأقبّل يدك وأكرمك كما أكرِمُ كبار العلماء، ثم تقول لي «هنيقا»!؟ وراح يكيل له ما تيسر من كلمات التأنيب، ثمّ أخذ العمامة عن رأسه وناولها أقرب رجاله آمرًا إياه فك قماشها وطرحه أرضًا، وهو لا ينفكُّ يردد بسُخرية: «هنيقا»!؟ «هنيقا»!؟ وقد زاده غضبًا طول القماش الذي قارب الاربعين ذراعا، فطرده شرّ طردة.

ثم أردف رضا بك قائلًا: فيا أبنائي إيَّاكم أن تغرَّكم المظاهر، فالإنسان بأصغريه، قلبه ولسانه، لا بما يرتديه من الثياب.

رحمة الله عليك يا رضا بك، فلو كنت اليوم حيًّا لأضفت بأن: لا «العمامة» مهما كبرت ولا اللحية الطويلة أو العريضة ولا الجبّة الفضفاضة علامة العلم الوفير والتبحّر في شؤون الدّين. وكما قال ابن رشد: «اللحية لا تصنع الفيلسوف»، وكما قال الشاعر: «وما كلُّ من قرأ الكتابَ فهيمُ».

 

[1] وقد كان أحد كبار القضاة في لبنان في خمسينيات القرن الماضي، تُوفيَ في العام 1974. كما كان صديقًا للمرحوم والدي.