«الحجاب الإسلامي»
سألتني سيدة قالت: هل الحجاب فرضٌ على كلِّ مسلمة؟
قلت: هل تعنين: غطاء شعرها؟
قالت: أجل.
قلت: إنّ هذا الأمر قد اضطرّ المسلمين، وبخاصة في بلاد الغرب، إلى خوض صراعاتٍ عديدةً مختلفة الأوجه، ما كلّفهم الكثير من المتاعب، وصلت أحيانًا إلى درجة الأذية.
أولًا: إن تسمية هذا الغطاء بالحجاب خطأٌ لغويّ. ففي لسان العرب والصحاح في اللغة، والقاموس المحيط: «الـحِجابُ: السِّتْرُ. وحَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْبًا وحِجابًا وحَجَّبَه: سَتَرَه.» وقد وردت كلمة «حجاب» في القرآن الكريم بضع مرّات، بهذا المعنى، منها: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ…} (الأعراف 46)، و{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} (مريم 17)، و{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (الأحزاب 53)، [هنَّ نساء النبي ﷺ]، و{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص 38)، و{وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت 5)، و{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (الشورى 51).
فالحجاب إذًا هو كل ما يستر أو يحجب الرؤية. وهذا يعني أنَّ مادته متغيرة حسب الحال، فقد يكون من القماش، كالستائر المنزلية مثلا، أو غيومًا، كما في قولنا: الغيوم تحجب الشمس، أو أكمة أو جدارًا أو غيره.
أما الصواب، فهو كما جاء في لسان العرب، الخِمَارُ أو النصيف: «والخِمَارُ للمرأَة، وهو النَّصِيفُ، وجمعه أَخْمِرَةٌ وخُمْرٌ وخُمُرٌ. والنصِيف: الخِمار، وقد نَصَّفَتِ المرأَةُ رأْسها بالخمار. وانتَصَفَت الجارية وتَنَصَّفت أَي اختمرت.» أو يمكن القول: «غطاء الشعر».
ثانيًا: إنّ تغطية شعر المرأة عادة متوارثة منذ ما قبل بعثة النبي محمد (ﷺ). فلا ينكر أحدٌ أن أشكال وألوان وأنواع الثياب التي ارتداها الإنسان منذ القدم، كانت دومًا ترتبط بطبيعة وجوِّ الناحية من الأرض التي يعيش عليها. ولذا فإن العيش في الصحراء كان يفرض على سكان شبه الجزيرة العربية، منذ ما قبل ظهور الإسلام، أن يرتدوا ثيابًا تحميهم من حرارة وأضرار أشعة الشمس الحارقة. فكان الرجال والنساء، على حد سواء، يرتدون الثوب الطويل الفضفاض، الذي يغطّي الجسد بكامله، كـ «الدشداشة» التي لم يزل سكان المملكة العربية السعودية ودول الخليج، يرتدونها على أنها زيّهم التقليدي، بالإضافة إلى غطاء الرأس؛ بشكل لا يظهر من جسم الإنسان سوى الوجه، واليدين إلى المعصمين، والقدمين إلى الكعبين. وكثيرًا ما كانوا يغطُّون الفم والأنف لاتقاء رمال العواصف في الصيف، أو البرد القارس في الشتاء..
كما أن تغطية الرأس والجسد لم تكن تقتصر فقط على سكان تلك الصحراء بل كانت منتشرةً في جميع بلدان الشرق الأوسط، إن لم نقل في جميع أنحاء العالم. فلو زرنا مثلًا أيًا من المتاحف لرأينا أن الثياب التقليدية لمعظم شعوب العالم كانت تغطي كامل الجسد، من دون الوجه واليدين. كما أننا إن زرنا أيّ كنيسة لإخواننا المسيحيّين فلن نجد فيها أيقونة واحدة تظهر فيها صورة السيدة مريم العذراء (ع) من دون غطاء الرأس، بل أكثر من ذلك فإننا نراها دومًا لا يظهر من جسمها سوى الوجه واليدين. ولكنّ اليوم، ومع رفاهية وسائل النقل والتكييف فقد اختلف الأمر في نوع وشكل اللباس في جميع أنحاء العالم.
أما تمسّك بعضهم باعتبار الخمار، أو تغطية شعر أو رأس المرأة المسلمة فرضًا، أو رمزًا دينيًا أيضًا، فأراه يعود لما فهموه من تفسيرهم للآيتين: (59 من سورة الأحزاب) التي تقول: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، و(31 من سورة النور) التي تقول: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ففي تفسيره للآية الأولى، يقول ابن كثير: «كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.» ولهذا في رأينا أضافت الآية: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ}.
وفي لسان العرب: «الـجِلْباب: القَمِيصُ. والـجِلْباب: ثوب أَوسَعُ من الـخِمار، دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به الـمرأَةُ رأْسَها وصَدْرَها؛ وقـيل: هو ثوب واسع…» ومن نص هذه الآية نتحقق أن الجلباب كان معروفًا قبل نزولها، أي قبل الإسلام، وأنَّ ما تأمر به، بقولها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فهو ستر صدر المرأة كي لا تتعرض للأذى، لا تغطية شعرها.
ويعزز رأينا هذا ما قاله الواحدي[2]: في أسباب نزول هذه الآية: «أَخرج ابن سعد في الطبقات عن أَبي مالك قال: كان نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرجنَ باللَّيل لحاجتهنَّ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهنَّ فيؤْذَيْنَ، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين فقالوا: إنَّما نفعله بالإِماء، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّها النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ…}. ثمَّ أخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي.»
أما الآية الثانية، أي (31) من سورة النور، فيقول محمد علي الصابوني، في كتابه «صفوة التفاسير» في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: «أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلّا يبدو شيء من النحر والصدر». وفي هذا أولا، دليلٌ على أن الخمار كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام، وثانيًا، أنَّه أمرٌ بتغطية الجيوب. وفي لسان العرب: «الجَيْبُ: جَيْبُ القَمِيصِ والدِّرْعِ، والجمع جُيُوبٌ. وفي التنزيل العزيز: ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنَّ.» والجيب هنا هو هذا الشق الذي يفصل بين النهدين، وهي بالتالي مشابهة في المعنى لما جاء في الآية الأولى لناحية ستر الصدر والنحر. وبالتالي فالمطلوب من المرأة المسلمة ارتداء الثياب المحتشمة. وهذا في رأيي، ما تحدده عادات المجتمع الذي تعيش فيه.
وهنا أسال: لماذا يغفلون ذلك الجزء من الآية الأولى الذي يقول: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ…} والذي نفهم منه أنّ هذه الآية إنّما نزلت لرفع الأذى عن المسلمات. وهذا ما يجعلني أقول: إذا كان غطاء الشعر هذا قد يتسبب بالأذى للمسلمات والمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، فإنّي أرى وجوب التخلي عنه، لرفع هذا الأذى.
فقالت السيدة: شكرًا على هذا التوضيح، ولكن هذا يؤدي إلى السؤال التالي: فما المقصود بالزينة في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ…} (النور31)؟
قلت: لقد أوضحَت ذلك الآيةُ عينُها بقولها: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي أنّ هذه الزينة، في رأيي، هي كل ما تخفيه الثياب التي ترتديها في كل مرّة.
وفي الخلاصة، سيدتي الكريمة، فحسب مفهومي لمضمون آيات القرآن الكريم، أقول: إن ما يطلبه الله، خالقُنا ﷻ، من المرأة في هذا الأمر، هو الحشمة في اللباس تجنُّبًا للفتنة، لأنّه يعلم أنّ نفْسَ الرجل أضعفُ من نفسِ المرأة في السيطرة على الغريزة الجنسية.
فقالت: باركك الله، لقد أرحتني. وكررت الشكر، وانصرفت.
[1] كتبتها في 27/1/2020.
[2] أسباب النزول – لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري – دار المعرفة بيروت – عام 2000.