دمار العرب من دمار العراق
أكاد لا أصدّق سمعي ولا بصري في ما يجري في دول ما يسمي بالربيع العربي. وهل من قبيل الصدفة أن يعُمَّ الانشقاق إلى حد التقاتل فيما بين أبناء البلد الواحدِ من تونس غربًا إلى العراق شرقًا؟
وتعود بي الذاكرة إلى كلمة قالها الرئيس كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية سابقًا، يوم سأله أحد الصحفيين إبّان الأحداث اللبنانية في الربع الأخير من القرن الماضي، قائلًا: يا فخامة الرئيس، هل نحن ذاهبون في لبنان فعلًا إلى التقسيم؟ فأجابه: «ما دام العراق بخيرٍ فالبلاد العربية، بما فيها لبنان.» لم ندرك يومها لماذا ربط أوضاع البلاد العربية بوضع العراق وحده.
ولا يطول الأمر كثيرًا بعد وفاة الرئيس شمعون حتى تنزلق قدمُ الرئيس العراقي، صدّام حسين، «بقشرة موزٍ» رمتها أمامه إبريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة الأميركية إلى بغداد، فيجتاح الكويت ويعلن ضمها إلى العراق[2]. فتُقيمُ الولايات المتحدة الدنيا وتقعدها وتحشدُ نصفَ دُولِ العالم «لتحرير» الكويت. وعوضًا عن أن يقف حكامُ البلاد العربية في وجه تلك الهجمة قائلين بأنّ هذا الأمر شأنٌ عربيٌّ يحُلُّه العرب وحدهم، رأيناهم يتسابقون، مُهْطِعين مُقنِعِي رؤوسِهم[3]، للحصول على الرضى الأميركي فيحشدون الجنود لقتالِ إخوانهم العراقيين إلى جانب الأميركيين وحُلفائهم. حتى رفضُ الفرنسيين المشاركة في تلك الهجمة، بل ووقوفهم العلني ضدها، لم يعنِ شيئًا لبني يعرب.
وتشاء «الأقدار»، سبحان الله، أن تتوقف الأحداث اللبنانية قبل «تحرير» الكويت بأشهرٍ معدودة. ويبدأ بعد هذا «التحرير» تدميرُ المجتمع العراقي وتفتيتُ روابط المواطنة فيه لتحويلِ انتماءِ أبنائه إلى التجمعات المذهبية والعرقية؛ إلى أن يوجّه له الأميركيون الضربة القاضية بأول قرار لهم، لحظة احتلالِهم أراضيه في العام 2003، بحجة واهية، ذلك القرار الذي قضى بحلِّ الجيشِ العراقي وتسريح جميع أفراده. فيصبح العراق ساحةً للفوضى والتقاتل بين الإخوة ويموت ما يزيدُ عن المليون طفلٍ ويتشتت في أصقاع الأرضِ مليون أو أكثر سواء من المقتدرين ماليًا أم من شبابه المتعلمين. ولا أرى ضرورة لزيادة شرحِ وضعه المُزري الذي ما زلنا نراه عِيانًا حتى هذه الساعة.
وفي العام التالي لاحتلال العراق وبعد تحرير جنوبِ لبنان بأربع سنوات، تبدأ سلسلة اغتيال شخصياتٍ لبنانيةً من سياسيين وصحفيين ومفكرين، إما بتفجيرِ سياراتٍ تُودي، أيضًا، بحياة العشرات من المدنيين، أو بالاغتيال المباشر. ويأتينا تموز العام 2006 بحربٍ إسرائيلية شاملة تحصدُ أرواح نحو 1500 لبنانيٍّ معظمهم من المدنيين العُزّل، وتُدمِّرُ اقتصاده الذي كان قد بدأ يستعيد عافيته السابقة لأحداث القرن الماضي المؤلمة. ويكون من نتائج تلك الحربِ وما سبقها وتبعها من اغتيالات، شللٌ شاملٌ أو جُزئيٌّ في معظمِ مؤسسات لبنان الذي وصفه الكولونيل تشرشل «Churchill» في منتصف القرن التاسع عشر، قائلًا: «فما قولك بجبل لبنان، هذه القلعة الطبيعية الكبيرة القائمة بين العالم الشرقي والغربي؟»
ومع العام 2011 يُطلُّ علينا «الربيعُ العربيُّ» من تونس فتتساقط الأنظمة الدكتاتورية فيها ثم في مصر وليبيا واليمن. وعِوضًا عن التحول إلى الديمقراطية يعُمُّ الانشقاق والتقاتل تلك البلدان الأربع وتُدمّرُ ثلاثة أرباع سوريا ويُهجّرُ أكثرُ من ثلث أبنائها إما في داخلها أو إلى خارجها، ويقتلُ مئات الآلاف من أبنائها المدنيين، جلهم من الأطفال والنساء والعُجَّز. فأتذكّر ما كان يُردّده المرحوم والدي عن السيد جمال الدين الأفغاني، بان العرب لا يقومون إلّا بحاكمٍ دكتاتورٍيٍّ عادلٍ. فهل كان عبثًا أن جمع هذا المفكرُ، الضِّدين: الدكتاتورية والعدل، لقيامة العرب؟
رحم الله السيد الأفغانيَّ والرئيس شمعون كم كانا بعيدي النظر.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة العدد رقم 18544 ليوم السبت 11/1/2014.
[2] كان ذلك في شهر آب من العام 1990.
[3] المُهْطِعُ الذي يَنْظُرُ في ذُلٍّ وخُشوعٍ، والمُقْنِعُ الذي يَرْفَع رأْسَه ينظر في ذلٍّ.