«المُخَرْمِش»
حتّى أواخر النّصفِ الأوّل من القرن العشرين، لم تكن الدَّولة قد تمكَّنت بعدُ من فتح المدارس الرَّسميّة في كثيرٍ من البلدات والقرى اللبنانيّة. ولذا كنتَ ترى، قبل ذلك، الأمِّيّةَ غالبةً على مُعظم أبناءِ بعضِ القُرى النائيةِ، إلَّا من عددٍ من المتعلّمين قد لا يزيدُ عن عددِ أصابعِ اليدِ الواحدةِ. وأحيانًا كان ينخفِضُ إلى واحدٍ فقط، وغالبًا ما يكون هذا خوري الرعيّة في القرى ذاتِ الأغلبيّةِ المسيحيّة، أو إمامَ الجامع في القرى ذاتِ الأغلبيّةِ المسلمة أو المختار. وكان هذا «المتعلِّم»، مهما كانت درجةُ علمِهِ، يتمتّعُ بدورٍ مُميّزٍ بين أبناء قريتهِ، لا في قراءة وكتابة رسائلهم فحسب، بل قد يتعداهُ إلى البتِّ في كثيرٍ من أمورِ القريةِ وشؤون أبنائها العائليّة أو الشّخصيّة. ويُمكنُنا أن نصِفَه بالمستشارِ أو أحيانًا القاضي. وهذا ما كان يُشعِرُه بأنّه أرفعُ مستوًى منهم، ما يجعَلُهُ حريصًا، أحيانًا، على الاستئثارِ بهذا الامتيازِ وألّا يسمح لغيره أن يشارِكَه فيه قدرَ استِطاعتِه. أليس هذا شأن سياسيِّيِ لبنان أيضًا؟
ويُروى عن إحدى تلكَ القُرى أنْ كان الخوري جريس المتعلّمَ الوحيدَ فيها، وهو لم يكن أحدَ أبنائها، وعلى الرُّغم من أنَّ بطرس أفندي كانَ أمّيًّا، فقد كان أكبر وُجهائها، لأنّه كان أكثَرَهم ثراءً إذ كان يملكُ، إلى جانبِ دارِه الفسيحةِ، أملاكًا شاسعة، وصلت إليه ورثًا، وكان إنتاجُها السّنويُّ يُوفِّرُ له أموالًا نقديةً لا بأسَ بها. وكانَ في عصرِ كلِّ يومٍ يجتمعُ في داره، سائرُ وُجَهاءِ القريةِ، وفي طليعتِهم الخوري جريس، للتَّداول في شؤونها، أو لتبادلِ الأحاديثِ على فنجان قهوة.
وكان لبُطرس أفندي ابنٌ اسمُه يوسُفُ، ورغبةُ الأبِ في تأسيس مستقبل ابنه، وخلوُّ القرية من أيّ مدرسة، اضطرَّاه إلى إرساله، منذ سنِّ الحداثة، ليتعلّم في إحدى المدارسِ الداخلية التَّابعة لإحدى الرُّهبانيات. ولمَّا اجتازَ يوسُفُ بنجاحٍ الامتحانَ الرَّسميّ النهائيَّ للمرحلةِ التعليمية الوسطى، وأصبحَ بالتالي حائزًا على شهادةِ الـ(Brevet)، عادَ إلى كنفِ والدِهِ، الذي قرّر أنّ يوسفَ لم يعد بحاجة إلى متابعة التّعلُّم إذ قد حان الوقتُ ليتسلَّمَ إدارة أملاك العائلة. وقد كانَ مستوى التَّعليم في تلكِ الأيّام يسمحُ لأيٍّ من أمثالِ يوسف أن ينضمَّ إلى ملاكِ التَّعليمِ في المدارسِ الرسميّةِ، والكثيرِ من الوظائف الحكوميّة الأخرى.
وبعد انتهاءِ الاحتفالات بنجاحه وبعودته النهائية، قال له والِدُه بأنْ قد أصبحَ عليه أن يُشاركَه أيضًا في اجتماعاتِ الوُجهاء اليوميّةِ، رغبةً منه في تدريبِه كي يتسلَّمَ الوجاهةَ من بعدِه. وهذه عادةٌ متأصِّلةٌ، أيضًا، بين أصحابِ المقاماتِ في لبنان بجميعِ مستوياتها، وبخاصّةٍ بين السِّياسيّين. فإن تمكّن الوريثُ من الارتقاءِ إلى مقامٍ أرفع درجةً أو درجاتٍ من مقامِ أبيه فهذه غايةُ المُنى. ولكنْ يبقى ذلك ضِمن الحُدودِ التي يُجيزُها له نظامُ لبنانَ الطَّائفيُّ حسبَ مذهبِه الدّينيِّ لا حسبَ مُؤهّلاتهِ العلميّةِ أو الذِّهنيّة، ومهما بلغت درجةُ خبرتِه ومهارتِه في حقلِ تخصُّصه.
وفي اليوم التّالي، التأمَ شملُ الوُجهاءِ في دارِ بطرس أفندي كالعادة. وبعد الانتهاءِ من تكرار عباراتِ التَّرحيبِ والتَّهنئة بيوسُف وبنجاحِه وعودتِه، طلبَ بطرسُ من الخوري جريس أن يمتحنه. وهذا عائدٌ إلى رفعةِ مقامِ هذا الأخير بين أهلِ القريةِ وثِقَتِهم بعلومِه. فاعتدل الخوري جريسُ في مقعدِه وشمَخ برأسِه ورفعَ كتفيه ثم توجّه إلى يوسُفَ يسأله وهذا يُجيب:
س: ما اسمُ الهرِّ بالفُصحى؟
ج: السِّنّور والقِطّ والبَسّ والهرّ.
الخوري: جواب خطأ، هو «المُخرمِش».
س: وما اسمُ النَّار؟
ج: النّار.
الخوري: خطأ، تُسمَّى «الحمراء».
س: والماء؟
ج: ماء وجمعها مياه وأمواه.
الخوري: وهذا أيضًا خطأ، بل تُسمَّى «الغَزِيرة».
فبدأ الغضبُ يظهرُ على وجهِ بطرس، والحاضرون يهمهمون ويتوشوشون. فقال أحدُهم: لعلَّه نسي، يا «أبونا» فرجاءً أعطهِ فُرصةً أخرى.
فقال الخوري: حسنًا. وما اسم البيت إذًا؟
ج: بيت ومنزل ودار.
الخوري: أخطأت أيضًا، بل يقالُ له، «الصَّرحُ الطَّويل». وسأختم بالسّؤال الأخير التَّالي: ماذا تُسمّى الكراسي والطاولاتُ وغيرُها مما يحتاج إليه الناس في منازلهم؟
ج: الأثاث والفرش.
الخوري: يبدو لي كأَّنّك لم تذهبْ إلى المدرسة، بل تُسمَّى «الجواهر».
هنا ثارت ثائرةُ الأبِ وطردَ ابنَه من القاعةِ قائلًا: اعتبارًا من الغدِ ستذهبُ للاهتمام بشؤونِ الأشجارِ والمزروعات والحيوانات، عاملًا زراعيًّا كسائر العمَّال، فقد ذهبَ سُدًى كلُّ ما تكلّفْتُه من المالِ لتعليمك، فاغرُب الآن عن وجهي.
خرج يوسُفُ حزينًا حائرًا في السّبب الذي جعلَ الخوري يفعلُ ذلك. ولكنْ ماذا يُمكنه أن يفعلَ غيرَ الإذعان لأمرِ والده؟ فبدأ مع صباح اليوم التَّالي بتنفيذ حُكْمِ أبيه.
وبعد مُدَّةٍ من الزَّمن، بعثَهُ والدُه برفقةِ أحدِ العمَّالِ لشراءِ بعض ما يحتاجون إليه في الأعمال الزِّراعيّة. وكانت المتاجرُ المقصودةُ في البلدة التي تقع فيها مدرستُه. فقال لرفيقه: سأذهبُ لزيارةِ مدرستي لعلَّني أرى أحدًا من رِفاقي، ولكنْ لن يطولَ غيابي لأكثر ممّا تحتاجُ إليه من الوقت لتًنجِزَ أنتَ بمفردِكَ ما كُلِّفنا به سويّةً، وأرجوك ألّا تُخبر أحدًا بذلك.
ولدى بلوغِه بابَ المدرسةِ رآه النَّاظر فرحّبَ به مستفسرًا عن أحواله. فشكرَه يوسُفُ وأخبرَه بما جرى له مع الخوري جريس، وكيف كانتْ ردّةُ فعلِ أبيه وأبناءِ القرية وما آلَ إليهِ حالُه كعاملٍ زراعيٍّ ثانويٍّ في أملاكِ والدِه. فهوّنَ عليه النَّاظرُ قائلًا: لا عليك يا بنيّ، فأنتَ لم تزلْ على براءتِك، ويبدو أنَّنا قد اخطأنا بأن علّمْناكَ ما في الكُتبِ فقط ولم نعلّمْكَ كيفَ تتعاملُ مع أولئك النّاسِ وأمثالِهم. وبعدما قدَّمَ له النّاظرُ بعضَ الإرشاداتِ والنَّصائحِ، غادرَه يوسُفُ شاكرًا.
وصدفَ أن ذهبَ الخوري جريسُ، بعدَ بضعةِ أيّام، في زيارةٍ لذويه، قالَ بأنّها قد تمتدُّ إلى ما قبل قُدَّاس الأحد القادم. وفي اليومِ التَّالي اشتعلت النَّارُ في منزلِه. ولكنَّ أهلَ القرية تمكّنوا من إهمادِها قبلَ أن تتسبّبَ بأضرارٍ جسيمة. وكان عليهم، بالتَّالي، أن يُعْلِمُوه بما حصلَ. فطلب بطرسُ أفندي من يوسُفَ، باعتبارِه الوحيد من أبناء القرية الذي يعرفُ الكتابة، أن يسطِّرَ للخوري جريس كتابًا يُعْلِمه فيه بما حصل. فنفّذَ يوسُفُ طلبَ والدِه وسلّمَه الرّسالة، فتولَّى الأبُ إرسالَها في اليوم التَّالي مع سائقِ البوسطةِ التي تصلُ القريةَ وما حولَها ببيروتَ وبما على طريقها من البلداتِ والمُدنِ، ومنها بلدة الخوري جريس. وكان ذلك السَّائق يعرفُ معظمَ الرُّكّابِ الذين ينقلُهم ويعرفُ مساكِنَهم ومقاصدَهم، فوعدَ بطرسَ أفندي بتسليمِ الرّسالةِ إلى الخوري جريس يدًا بيدٍّ.
انتظر أهلُ القرية عودةَ الخوري جريس في اليومِ التَّالي، ولكنّه لم يعدْ إلّا بعدما أمضى المدَّةَ التي كان قد حدَّدها لغيابِه. فأسرعَ أهلُ القريةِ للترحيب به والسلام عليه، وسأله بطرسُ أفندي عن سببِ تأخُّرِه بالعودةِ على الرُّغمِ من الحريق الذي أخبروه به في رسالتِهم. فأجابه الخوري بأنَّه تسلَّمَ الرِّسالة وأنَّ محتواها كلامٌ غيرُ ذي معنًى. وسحب ورقتها من جيبه وراحَ يقرأ على مسامعٍ الجميع:
«بعد التحية، نعلمكم بأنّ المُخرمِشَ قد دخلَ إلى الصّرحِ الطَّويلِ حاملًا بذنبِه الحمراءَ ولو لم ندركْها بالغزيرة لأتلفت الجواهر.»
وتابع: فبالله عليكم ما هذا الهراء وأين الخبرُ الذي تتكلمون عنه؟
عند ذلك نهرهُ بطرس أفندي، قائلًا: «ولوْ يا أبونا» إذا كُنتَ أنتَ قد نسيتَ فأنا لم أنسَ بعدُ، أليست هذه هي الأسماءُ التي صحّحتَ بها أجوبةَ ابني يوسُفَ إثرَ عودتِه من المدرسة؟ وثنَّى على كلامهِ هذا، أيضًا، سائر الحاضرين من وجهاء القرية.
فصَمَتَ الخوري جريس وطأطأ رأسَه خجلًا. وفهمَ بطرسُ أفندي، بما علَّمتْه الأيّام، أنَّ ما فعلهُ الخوري كان من غيرتِه على موقِعِهِ بين أبناءِ القريَةِ، الذي لا يريدُ أنْ يشارِكَه فيه أحدٌ، ولِذا، واحترامًا لثوبِ الكهَنوتِ الذي يرتديهِ، لم يُوجِّه له أيّ لومٍ أو عتابٍ. بل اكتفى بأن نادى على يوسُفَ وقال له بصوتٍ عالٍ: «اعذرني يا بنيَّ فقد ظلمتُك». وضمّهُ إلى صدرهِ وطبعَ على جبينِه قُبلةً أبويةً أنستْه كلَّ ما عاناه، جرَّاء فعلةِ الخوري، من تعبٍ جسدِيٍّ ونَفْسِيٍّ، وعلَتْ محيَّاهُ ابتسامةُ الرِّضى والانتصارِ، شاكرًا في سرِّهِ لنَاظِرِ المدرسةِ نصائحَه وإرشاداتِه التي مكَّنتْهُ من استعادةِ وتعزيز المركز الذي يستحقّه لدى والدِه وبين أهلِ القرية.