تفتيت البلاد العربية

تفتيت البلاد العربية

كثيرة جدًّا هي الشعوب، إن لم نقل: جميعها، التي تعرضت في التاريخ للغزوات والحروب والاحتلالات، منها من تمكن من النجاة، ومنها من «غرق» واندثر.

وقد يزداد تعرّض أيّ شعب لمثل ذلك بقدر ما تتميّز به أرضه من أهميّة، سواء في موقعها أم في ثرواتها. ويبقى من أخطر ما يواجهه ذلك الشعب إبّان تعرضه لأزمة ما، هو أن يتخلى أبناؤه عن وحدتهم ويتخاذلوا عن الدفاع عن كيانهم.

لم يسجّل التاريخ أن أرضًا ما قد تعرّضت للاحتلالات والغزوات والحروب بقدر ما تعرضت له هذه البقعة من الأرض، مما يسمى اليوم «الشرق الأدنى»، ويسميها بعضهم «سوريا الطبيعية أو الكبرى أو الهلال الخصيب»، لأهميّة موقعها الاستراتيجي بالإضافة إلى ثرواتها الطبيعية، والتي جزأتها اتفاقية «سايكس بيكو» منذ مائة سنة إلى ما يعرف حاليًّا بالعراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وقد كان حظُّ هذه الأخيرة أن تُغتصبَ ويُهجَّرَ أهلها، بفضل بريطانيا «العظمى» وحلفائها، لتصبح حاجزًا يفصل بين عرب آسيا وعرب إفريقيا.

أمّا ما يحصل اليوم في البلاد العربية قاطبة، فهو أخطر بكثير من مفاعيل «سايكس بيكو»، عنيت تفتيت، ليس فقط، مجتمعات كيانات هذه «الاتفاقية»، بل أيضًا سائر تلك البلاد. والمؤسف المحزن هو أن يتمّ هذا التفتيت على أيدي المغرضين أو الجهلة من أبنائها، وبإخلاص وحماسة أشدَّ مما هو لدى أعدائهم. فبعدما أمعنوا بالتقاتل والتهجير والتدمير، برزت حربٌ فكريّة خطيرة، قادتُها ممن يسمَّون بالباحثين الذين ينبشون في مقابر التاريخ عمّا يزيد في بذر الفرقة ونار الحقد في النفوس. فبدأوا بما تحويه الكتب الصفر، ممّا يفرق دينيًا ثم «ارتقوا» إلى ما يفرق مذهبيًا، إلى أن بلغوا «القمّة» في العودة آلاف السنين بحثًا عن أعراقٍ بادت أو انصهر أبناؤها مع من طرأ عليهم من المجتمعات الأخرى، متناسين سُنّة تطور الشعوب والمجتمعات الدائم عبر التاريخ، فكريًا باندماج الحضارات وجسديًّا بالتزاوج.

وكانت سلسلة التفريق: فبعدما صنفوا أبناء البلد الواحد، هذا مسيحيٌّ وذاك مسلمٌ، أصبح المسيحيّون موارنة وروم أرثدوكس وكاثوليك وغيرها. وأصبح المسلمون سنةً وشيعةً ودروزًا وعلويين وغيرها. إلى أن وصلنا إلى الأعراق فسمَّوا هذا عربيًّا وهذا كرديًّا وذاك أرمنيًا وتركيًا وسريانيًا وكلدانيًّا وآشوريًّا إلى آخر المعزوفة.

وممّا يزيد الطين بِلّة هو مواقف الأجهزة الحكومية في البلاد العربية، من رأس الهرم إلى أسفله، التي عوضًا عن أن تقف في وجه نزعات التفرقة هذه بجميع أشكالها، نراها تساهم في إذكائها سواء عن قصد أم عن تقاعس وجهل.

وإنِّي أسألُ السادةَ عُلماء الأعراقِ والأنسابِ والاجتماعِ: كم من السنين تحتاج جماعاتٌ من أعراقٍ وقومياتٍ مختلفةٍ إلى العيشِ معًا، على أرضٍ واحدةٍ وفي ظروفٍ واحدةٍ في حلوها ومرِّها، ويتزاوجون بعضُهم من بعضٍ، كي ينصهروا فيما بينهم ليصبحوا شعبًا واحدًا؟ ألا تكفي أربعة عشر قرنًا لذلك؟ وألم يحن الوقت بعد لتقتنعوا بأنّنا أصبحنا شعبًا واحدًا؟ ولا فرق عندي في أن نُسمَّى عربًا أو غيره. وهذه الولايات المتحدة الأميركية أكبر مثالٍ أمامنا وهي لم يبلغْ بعد عمرها ثلاثة قرون.

فإنّي أهيب بقادةِ الفكرِ والبحثِ في بلادي، وبمسؤوليها كافةً، سِّياسيِّين كانوا أم غير سِّياسيِّين، كلٌّ في مجالِ عملِهِ ومسؤوليتِهِ، أن يقفوا جميعًا في وجِه هذه التياراتِ المُغرِضةِ، ويعملوا على توحيد البلاد، حتى لو كلفهم الأمر التضحيةَ، لا بالكراسي والمراتب وحسب، بل بكلِّ غالٍ ونفيسٍ أيضًا. وأعتقد جازمًا بأنهم سيجدون ما يكفي ويزيدُ من مواطنيهم جنودًا مُخلصين مُجاهدين، للوصول ببلادهم إلى برِّ الخلاص والأمان والعزة والكرامة، واقفين معًا سدًّا منيعًا بوجه أيِّ خطرٍ قد تتعرضُ له بلادنا الحبيبة، فيتسلمها أبناؤنا وأحفادنا حرَّةً أبية.

فكفانا تفتيتًا وتفريقًا ولندرأْ عنَّا لعنةَ الأجيالِ القادِمةِ.

 

[1] كتبت هذا المقال في 21/6/2017، وقرأته على أثير إذاعة الشرق الأوسط في مونتريال برنامج (ما خلصت الحكاية) الذي يقدمه الإعلامي الأستاذ فكتور دياب يوم الأحد الواقع فيه 25/6/2017. ثم نشر في جريدة الرسالة – كندا العدد 426 تاريخ 16/11/2018.