«لبّادة ونص»
حتّى أواسط الربع الثاني من القرن العشرين كان كثيرون من أبناء جبل لبنان ما زالوا متمسّكين بلباسهم التقليدي: اللبّادة[1] على الرأس، ثم الكبران[2]، وتحته المِنتيان[3] أو الصدرية من أعلى الكتفين حتّى الخصر، ثم الشروال[4] حتّى الكعبين.
وكان في كلِّ قريةٍ، من القرى النائية، دكّان واحدٌ، أو اثنان وأحيانًا ثلاثة، حسب كثافة سكّان كلٍّ منها. وكان الدكّان يحتوي على معظم ما يحتاجه أبناؤها لمعيشتهم اليومية؛ بالإضافة إلى بعض الألبسة. وكان صاحب الدكّان يمنح بعض أبناء القرية فرصة الدفع الآجل لثمن ما يشترونه، إلى ما بعد بيع محصول زرعهم أو غرسهم.
كما كان من الطبيعيّ أن يظهر من بين أصحاب تلك الدكاكين من يستغلُّ حاجة الآخرين، فيتلاعب بقيوده ليكسب ولو قليلا من المال الحرام، إرضاء لطمعه وجشعه.
ويروى أنه في إحدى تلك القرى، جاء أحد المدينين إلى دكّان دائنه، وقال له: يا صديقي شفيق، الحمد لله، لقد تسلمت للتوِّ دفعة من ثمن محصول الموسم الحالي، وجئتك لأدفع لك قيمة ما يتوجب لك بذمتي، مع شكري لك وامتناني.
فرحّب شفيق به وشكره. ثم فتح «سِجلّه»، وهو عبارة عن دفتر مدرسيّ أبلت أناملُه والأيّام زواياه، وراح يقلّب أوراقه، بعدما مسح إبهامه ببعض اللعاب الملتصق على شفته السفلى من داخل فمه، إلى أن بلغ صفحة الحساب المطلوب، فقال له: لنا بذمّتك، أيّها الصديق، سعيد، مبلغ كذا.
ويبدو أن تعامل سعيدٍ السابق مع شفيق، قد خلَّفَ في نفسه بعض الشكِّ، فقال له: كلُّ إنسانٍ معرّضٌ للوقوع في الخطأ، فهل لي أن ألقِيَ نظرة على الحساب؟
فناوله شفيقٌ «السجِلّ»، قائلًا: لك كلُّ الحقّ في ما تطلب.
وبينما سعيدٌ يدقّق جيدًا في القيود، وقع نظره على قيد لقيمة لبّادتين.
فرفع وجهه تُجاه شفيق وقال له: ما هذا يا شفيق، «لبّادتين»؟ فمتى رأيتني اشتريت اثنتين دفعة واحدة؟ إذ قد أشتري واحدة في كلِّ سنتين!؟
فقاطعه شفيق، قائلا: لا تغضب يا صديقي، فسأجعله «لبّادة ونصّ»[5].
فوجئ سعيدٌ باقتراح شفيق وراح يصيح، ويلطم رأسَه بيديه، مردِّدًا: «لبّادة ونصّ»؟ «لبادة ونصّ»؟ «لبّادة ونصّ»؟ ثم توجّه إلى باب الدكّان وأخذ ينادي قائلا: بالله عليكم، أيّها الناس، هل اشترى أو لبس أحدكم يومًا «نصف لبّادة»، أو سمع أنّ أحدهم فعل ذلك؟
أسرع شفيقٌ إليه محاولًا تهدئته وإعادته إلى الداخل وهو يقول بصوتٍ خافت: كفى بالله عليك، واسترْ زلّةَ لساني ولا تفضحني، ولك أن تدفع المبلغ الذي تريد.
هدأ سعيدٌ قليلا، وعاد إلى الداخل وقال: بل سأدفع لك حقّك كاملا، ولكن بعد أن تقوم بنفسك بإعادة التدقيق في كامل الحساب لإلغاء كلّ ما أضفتَه نتيجة طمعك وجشعك. وإنّي على يقين بأنها ليست المرّة الأولى التي تتلاعب فيها في القيود. وأن تعدني، أيضًا، بأن تعيد تصحيح حسابات كلّ من اشترى ويشتري منك بالدفع الآجل؛ وإلّا لن تنال منّي قرشًا واحدًا، وسأعلم، أيضًا، أبناء القرية كافّة، بما حصل بيننا. وموعدُنا غدًا. ثم غادرَ الدكّان من دون أيِّ تحيّة، وهو يردّد: من يأكل المال بالباطل لن يسلم من عذاب ربّه، مهما طال الزمن.
[1] اللبادة وهي قلنسوة مصنوعة من قماش سميك من الصوف المتلبد. ويقال: تَلَبَّد الشعَر والصوف والوَبَر والتَبَدَ: تداخَلَ ولَزِقَ.
[2] الكبران ثوب إلى الوسط يلبس فوق الصدرية.
[3] المنتيان او الصدرية التي تلبس تحت الرداء. ويمكن أن تشبه بالقميص كما نعرفه اليوم.
[4] الشروال لغة في السروال الذي يقول بعضهم أنه مفرد سراويل. وفي لسان العرب: السَّراوِيل أَعْجَمِيَّة أُعْرِبَتْ وأُنِّثَت، والجمع سَراوِيلات.
[5] لبّادة ونصف.