وما زالت الرحلة مستمرة[1]
اليوم، الذكرى الخامسة والثمانين لمولدي، ولم أزل، بحمد الله وشكره، أتمتع بكل ساعة يمنُّ بها عليّ خالقي، مما قَسَمَ لي من سنوات العمر التي لا أعلم عددها.
كيف لا، ورفيقتي على دروب هذه الحياة، وزهراتي الثلاث، وحفيداي الغاليان، لا يبخلون عليَّ بساعات المحبة والحنان، ويقفون سدًّا منيعًا بيني وبين الملل والشعور بالوحدة.
الفراغ الذي يشكو منه الكثيرون من أترابي، أبعدوه عنيّ، هم وصفوةُ أصدقائي، بحضّهم ريشة قلمي على عدم التوقف عن خطِّ كلماتٍ منسقةً مفيدةً. فما أكاد أنتهي من وضع كتابٍ أو بحثٍ أو مقالةٍ، حتى أراني منغمسًا في عملٍ جديد، انطلاقًا مما علمتنيه الأيام، وقدمته نصيحةً لقرّائي، في قولي: «لا تدعْ يومًا يمرّ من عمرك من دون عملٍ منتجٍ، ولو كان ضربةً واحدةً من قلمٍ أو مِعولٍ أو مِطرقة.»
كما أقول لأخواتي وإخواني المتقاعدين، أو من قاربت أيام بلوغهم سن التقاعد: إن التقاعد من العمل، لا يعني عدّ الأيام الباقية من العمر، ولا الاستسلام للفراغ، ولا الجلوس في زوايا غرف المنزل، ولا انتظار الأمراض والعمل على اتقائها. ولا يعني أيضًا أنكم أصبحتم عبئًا على المجتمع. أو غير ذلك مما نسمعه كثيرًا عن ألسنة المتخاذلين الذين هم من سيصبحون ذلك العبء. بل تذكروا أنكم أصحابُ ثروات لا تقدر بمال. فقد خزّنت أدمغتكم خلاصة تجارب سنوات طويلة، حسبتموها مرّت سريعةً.
تلك التجارب علمتكم الكثير من أسرار الحياة بحلوها ومرّها، فلا تئدوها، بل انقلوها إلى أولادكم وأحفادكم وأترابهم، كلٌّ منكم بالوسيلة التي يراها تفي بالغرض. ولا يظنّ أحدُكم أن دوره في هذه الدنيا قد انتهى، أو أن ما يعرفه، أو ما يمْكِنه عملُه، قد عفا عليه الزمن جرّاء التطور والوسائل الحديثة. وكلّ ما عليكم هو عدم الانقطاع عن العطاء ولو كان كلمةَ خيرٍ، أو لعبةً من ورقٍ قد تسعد قلب طفل.
سنوات التقاعد، يا صديقي، حياةٌ ثانية، نتحرر فيها من رتابة وقيود العمل، ونفاق التعامل مع من كنّا نتمنى لو لم يمرّوا من أمام ناظرينا. فلا تُضِعْ منها ساعة واحدة. تمتعْ بدقائقها واملأها بما تهواه نفسك، مهما كانت هوايتك. ولا تستسلم للفراغ المملّ المجلب لليأس والسَّقام القاتل. ولا تنقطع عن لقاء صفوة أصدقائك، فهمْ فاكهةُ العيش.
ولا تنسَ دفء وحنان عائلتك، وعشْ معهم سويعات السعادة الخالية من كلّ زيفٍ ومصلحة ماديّة، ولو مرةً في الأسبوع الواحد. فهم سكنك ووطنك الحقيقيّان.
وإن كنت أكتب اليوم هذه الكلمات بمناسبة ذكرى مولدي، فليس بإمكاني أن أنسى أنّه أيضًا أولُ أيام الشهر السابع على صمود أخواني الغزّاويّين في وجه ظلمِ وعدوانِ ووحشيةِ شذّاذِ آفاقٍ، من بني صهيون، جاؤوا من أرجاء المعمورة، إلى أرض فلسطين لاجئين، منذ ما يزيد عن المائة سنة، ليغتصبوها، ويطردوا أصحابها، ثم ليقيموا عليها دولة عنصرية، تمارس بحق من بقي من أصحابها، جميع الجرائم التي تؤدي إلى الإبادة الجماعية.
وعلى الرّغم مما كبدتهم هذه الحرب، فقد رفع الغزّاويون رؤوسنا عالية بين الأمم، وكشفوا عورات ما سُميت بـ «الدولة الديمقراطية الوحيدة في شرقنا»، ومرّغوا أنوف جنودها في تراب أرض فلسطين المقدسة. كما أسقطوا الأقنعة عن منافقي الحريات وحقوق الإنسان والقوانين الدولية ومنظماتها، ومدّعي الروابط الوطنية والعروبة والإسلام.
فكلّ ما أرجوه، اليوم، من ربّي أن يمنّ عليّ برؤية فلسطين عربيةً حرةً أبيةً، لا تدنس ترابَها أقدام المغتصبين. اللهم استجب.
مونتريال
8 نيسان 2024
أسامة كامل أبو شقرا
[1] نشرت على الفيسبوك في حينه.