رسالة ثانية من التاريخ

رسالة ثانية من التاريخ

إلى السيد ميشال عون

اليوم، الثلاثين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، تنتهي مدّة أسوأ عهدٍ عرفه اللبنانيون، منذ إعلان «دولة لبنان الكبير»، ويغادر «رئيسه» «قصر الشعب»، غير مأسوفٍ عليه.

شكرًا «فخامة الرئيس»، سابقًا، لقد «أوصلتنا» إلى ما لم نكن نحلم به قط، حتى من ألدّ أعدائنا. ففي نهاية مسيرتك «المشرِّفة»، يا طويل العمر، بلغ لبنان جهنمَ التي وعدتنا بها، هل نسيت؟ أم هذا هو وعدك بأن تسلم لبنان لخلفك، أفضل مما تسلمته؟؟

ثلاثة أرباع من بقي في لبنان من «شعبه العظيم» باتوا فقراء، يتسولون لقمة العيش. خزينة الدولة تنوء تحت عجزٍ غير مسبوق، جرّاء ديون بعشرات المليارات من الدولارات، سُرِقت أموالها. البنوك مفلسة. الاقتصاد انهار بالكامل. الدولار الذي كان يومًا يعادل ليرتين وعشرين قرشًا، يحلّقُ قُربَ الأربعين ألف ليرة. العتمة شاملة. المياه إمّا ملوثة أو مقطوعة. معالم الحضارة التي وصل إليها لبنان، بفضل مبادرات أبنائه الفرديّة، اندثرت تحت رماد وحطام نصف مباني بيروت ومرفئها، الذي دُمِّر، منذ ما يزيد عن العامين، بأضخم تفجير غير نووي، ولم نزل ننتظر نتيجة التحقيق فيه، التي وعدتنا بأن نعرفها في مدة خمسة أيام. هل نسيت؟

لقد كانت بداية مسيرتك تلك، في العام 1982 بمصافحة قادة جيش العدو، إبّان احتلاله لعاصمتنا، «ست الدنيا» بيروت. ثم أصدرتَ أوامرك إلى المغرّرين بوعودك البرّاقة، من جنود جيشنا، بعدم السماح، حتى للعجائز، بنقل «ربطة الخبز» الواحدة، مما كان يسمّى «بيروت الشرقية» إلى أختها «بيروت الغربية». هل نسيت؟

وبعدما تولَّيتَ رئاسة حكومة عسكرية، عرجاء، في الربع الأخير من العام 1988، عمدت إلى تعطيل عملية انتخاب خلفٍ للرئيس أمين الجميل، لأنّك كنت تطمح إلى أن تكون أنت، لا غيرك، ذلك الخلف. فاحتللت قصر بعبدا، وأطلقت عليه اسم «قصر الشعب». ولتجذب عواطف الشباب التوّاقين إلى الأمن والحرية والسيادة، رحت تجيش أنفسهم بخطابات «شعبوية» جوفاء.

وفي صباح 14 آذار/ مارس، 1989، أعلنت حربك لتحرير «المنطقة الغربية» من الاحتلال السوري، فسقطت أولى قذائفك في مستديرة الأونيسكو، على حافلات كانت تنقل التلاميذ إلى المدارس، فأصابت العشرات منهم، بين قتيل وجريح. وراحت قذائفك، بعد ذلك، تتناثر على المباني السكنية، من دون أن تطال «المواقع العسكرية السورية المهمّة». ولما أصابت إحدى قذائف «أعدائك»، خزانًا للغاز في منطقة الدورة، أطلقت مقولتك، التي لم ولن أنساها: «التعتيم بالتعتيم، والتعطيش بالتعطيش»، فأمرت بقطع ماء الشفة والكهرباء، على مدى تسعة أشهر، عن سكان «بيروت الغربية»، الذين ادعيت أنّك تريد «تحريرهم من الاحتلال السوري»، ولكنّك كنت في الواقع، تعمل على «تحرير أرواحهم من أجسادهم». هل نسيت؟

وبعدما فشلت في حربك تلك، أخذتك الحميّة والغِيرة، إذ كيف يتسبب التقاتل، قبل بضع سنوات، بين حركة «أمل» و«حزب الله»، بأن يقتل الأخ أخاه، ابن أمّه وأبيه، فأطلقت قذائفك تُجاه المناطق التي كانت تحت سيطرة القوات اللبنانية، «حلفائك بالأمس القريب»، معلنًا هدفك بتوحيد البندقية «المسيحية». فتسبَّبْتَ، أيضًا بأن يقتل الأخ أخاه، وبقتل وجرح المئات، إن لم يكن الآلاف، من «المسيحيين» الذين لم تزل تدّعي حمايتهم. بالإضافة إلى تدمير العديد من المباني والمنشآت. هل نسيت؟

وبعد إقرار «وثيقة الطائف»، التي رفضتَ الاعتراف بها، رفضتَ أيضًا تسليم قصر بعبدا إلى الرئيس المنتخب، إلياس الهراوي، فاعتصمت فيه، مع بضعة آلاف جنديٍّ لبنانيٍ، شحنت نفوسهم بالكلام الوطني البرّاق، بوجوب الدفاع عن ذلك القصر، «رمز الجمهورية والسيادة والاستقلال»، وكنت تعلم جيدًا أنك ستخوض حربا خاسرة، فصمدتَ سبعًا وأربعين دقيقة، قبل أن تهرب بمفردك، وتتركهم خلفك، ومعهم أفراد عائلتك، زوجتك وبناتك، لتلجأ إلى السفارة الفرنسية. فكانت النتيجة قتل واختفاء المئات من أولئك الجنود. فهل رفّ لك جفنٌ يومها؟ أم هل عملت على معرفة مصيرهم إبّان توليك كرسي الرئاسة؟ هل نسيت؟

وبعد خروج جيش النظام السوري من لبنان في العام 2005، عدت، من منفاك في باريس، «مظفرًا» بعد مفاوضات غير مباشرة مع ذلك النظام، وأتباعه، رافعًا شعار «الإصلاح والتغيير»، بكلمات جوفاء، بقيت تطلقها حتى الأمس. ولكنّ شهوة الجلوس على كرسي رئاسة الجمهورية، لم تهمد، بل زادها اشتعالا، حميّتك وغيرتك، من انتخاب الرئيس إميل لحود، وهو قائد سابق للجيش، كان يومًا تحت إمرتك. فتحالفت مع من وعدك بذلك الكرسي، ولغاية في نفسه، إذ هو يعلم جيدًا تاريخك، وما تُسرّه في نفسك. وقد زاد تلك الشهوة، تأجّجا فيما بعد، انتخابُ قائد آخر، لذلك الكرسي، هو الرئيس ميشال سليمان. هل نسيت؟

ولتحقيق رغبتك تلك عمدت، منذ ما بعد ذلك التحالف، إلى سياسة التعطيل، واختلاق القلاقل، وتعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية، مدعومًا ممن حالفوك، على قاعدة: «الغاية تبرّرُ الوسيلة» مهما كان الثمن. هل نسيت؟

وبعد تعطيلكم عملية انتخاب سواك، لخلافة الرئيس سليمان، لنحو الثلاثين شهرًا، تحقّق حلمُ عمرك. وبدلا عن الوفاء بوعدك في الإصلاح والتغيير، بحجة «ما خلّونا»، رحت تغطُّ في النوم العميق، على ذلك الكرسي «الوثير»، تاركًا الحبل على غاربه لصهرك المدلّل وأتباعه، لمتابعة سيرهم على طريق الفساد، بوقاحة تفوق زملاءهم وشركاءهم في اغتصاب مقاليد التحكم برقاب اللبنانيين، تحت مظلة حماية حقوق الطوائف والمذاهب. إلى أن دفع اللبنانيون ثمن كرسيك هذا، بتحول لبنان من جنّة الشرق، إلى جهنّم المعمورة بأكملها.

حتى إخواننا العرب، أشاحوا بوجوههم عنّا، جرّاء ما بغّضَ دولةَ «لبنانك العظيم» إليهم، من أفعال وأقوال من نصّبك «رئيسًا». هل نسيت؟

ولكن، اطمئن، فسيذكر التاريخ «إنجازاتك» كاملة غير منتقصة، وأهمّها أنّ الجهة الوحيدة التي انتفعت منها، من غير الفاسدين، هي «الدولة» التي اغتصبت أرض فلسطين.

فلا أعاد الله على لبنان عهدًا مثل عهدك.


[1] كتبت هذا المقال بمناسبة انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون ونشرته على الفيسبوك.