القضاء في الأربعينيّات
كان المرحوم رضا بك التامر من القضاة المشهود لهم. وكان «مفوض الحكومة لدى مجلس الشورى» هو آخر المناصب التي تولاها قبل الاستقالة، للدخول في معترك الانتخابات النيابية في العام 1956. وقد سمعته يومًا يروي للمرحوم والدي، الذي كانت تربطه به صداقةٌ وثيقة، قال: في إحدى سنوات الأربعينيات[2]، لاحظنا ارتفاعًا متزايدًا في أسعار اللحوم الطازجة، من دون معرفة السبب. وعلى الرُّغم من تذمّر الناس لم يتوقف ذلك الارتفاع. فرأيت من واجبي أن أفعل شيئًا ما. فغدوت في صبيحة أحد الأيام، وعلى غير عادة، إلى دكّان الجزار المجاور لمسكني، الذي بادرني بكلماتِ ترحيبٍ يشوبها بعض التلعثمِ من الشعور بالمفاجأة. فأجبته بكلامٍ فيه بعض القساوة، قائلا: ما هذا الذي تفعلونه أيها الجزارون؟ ولماذا ترفعون الأسعار؟
فردَّ بصوت مرتجف: هذا ليس بأيدينا نحن، يا بك.
فقلت: أصدقني القول كي لا تضطرني إلى اتخاذ ما لا يسرُّك.
قال: إنهم تجار الجملة الذين يرفعون الأسعار. أما نحن فنضيف عليها نسبة الأرباح المعتادة فقط.
قلت: أعطني فورًا أسماءهم وعناوينهم، وإلا اعتبرتك شريكهم.
وفور تزويدي بما طلبت، سطرت مذكرات بإحضارِ كلٍّ منهم إلى المحكمة مخفورًا وفورًا، وأبلغتها حسب الأصول إلى القُوى الأمنية، ومع ساعٍ خاص. ثم ذهبت إلى قهوة الغلاييني[3] مصطحبًا جريدة الصباح، حيث مكثت حتى ما قبل موعد بدء الجلسات بنحو ربع الساعة، فقمت بمكالمة رئيس قلم المحكمة هاتفيا من هاتف المقهى. فإذا به يبادرني قائلا: أين أنت يا بك؟ فجرس جهاز الهاتف لا يتوقف عن الرنين. وأعتقد أنَّه لم يبقَ أحدٌ من السياسيين لم يسأل عنك.
قلت: هل أحضرت القوى الأمنية المطلوبين؟
قال: أجل، وأعتقد أنَّ هذا هو سبب كثافة الاتصالات الهاتفية.
قلت: حسنًا، فوافني أنت، إذًا، إلى قاعة المحكمة، مصطحبًا «الثوب» والملفات، ومن دون أن تبلغ أحدًا. وسأدخل أنا من الباب الخلفي لنبدأ الجلسات فورًا.
وأردف قائلا: ولما استويت على كرسي المقاضاة طلبت إحضار تجار اللحوم. فكان لعنصر المفاجأة دورٌ عظيمٌ في عدم تمكنهم من تبريرٍ منطقيٍّ وموثّقٍ لزيادات الأسعار. فأصدرت بحق كل منهم العقوبة التي تسمح بها القوانين المرعية. وهكذا، انتهت الأزمة وعادت الأسعار فورًا إلى حجمها الطبيعي.
تذكرت هذه الحكاية، فكتبتها لأبيِّن للجميع أنّ القضاء اللبناني في أيامنا هذه، ليس بحاجة إلى نصوص تنظّم استقلاله، بقدر ما هو بحاجة إلى إرادة القاضي وحرّية ضميره وقوّة شخصه.
[1] تذكرت هذه الحكاية، فكتبتها في 25/2/2020 أي في اليوم 131 من انطلاق ثورة 17 تشرين الأول 2019. ونشرت على الفيس بوك.
[2] من القرن العشرين.
[3] وكان موقعها حيث يقوم حاليًا مجمع «الموفمبيك» السياحي.