«بدبس يا لبيبة»

«بدبس يا لبيبة»

كانت مادّة السُّكر، في الرّبع الأوّل من القرن العشرين، عزيزةً غالية الثمن، ولم يكن يشتريها سوى ميسوري الحال ككثيرٍ غيرها من المواد التي تسبّبتْ بارتفاع أسعارِها الحربُ العالميّةُ الأولى. أمّا المُعسَرون فكانوا يعمدون إلى دبس العنب أو الخروب لتحلية الطّعام والشّراب.

وكان الشَّيخ خليل الخازن، في تلك الأيّام، أحدَ كبار ضبّاط الدّرك اللبناني. وكان معروفًا بالظُرفِ والفُكاهة وسرعة البديهة. ويروى أن جاءه أحدهم يومًا زائرًا، في منزله في كسروان. ولمّا فتحت له الباب «لبيبة»، مدبّرة المنزل، رأتْ أمامها رجلًا وسيمًا أنيقًا يرتدي ثيابًا متناسقة الألوان، على الطراز الأوروبّي؛ بينما كان يومها كثيرون من العامّة ما زالت ثيابهم على الزيِّ اللبنانيّ التقليدي، «الشروال» و«الكبران»[1] وتعلو اللبّادةُ الرأسَ. فبادرها بالسّؤال عن الشّيخ. فقالت، في سرِّها، لعلّه من ذوي الشّأن، ومن دون السُّؤال عن اسمه أو مُراده، دعته إلى الدخول إلى غرفة الضّيوف. ثمّ أسرعت لتُعلم ربَّ البيت بقدوم هذا الزّائر «المُهمّ».

وقبل أن يتوجّه للقاء الضّيف قال لها الشّيخ: اليوم هو من أيّام الصّيف الحارّة، فليكنْ شرابُ الضيافة، الليموناضةُ بالسّكر. إذ كانت التحلية بالسّكر من دواعي تكريم الضّيف «المُهمّ».

ولمّا دخل الشّيخ إلى الغرفة تحقَّق من أنّ هذا الضّيف يزوره للمرّة الأولى، بل هو أيضًا لم يرَه من قبل. ولكنّه، هو بدوره، أُعجبَ بحسن مظهره وأناقته. وبعد أداء التّحيّة وواجب الترحيب بالضّيف، على الطّريقة اللبنانية، سأله، قائلًا: من أين أنت آتٍ أيُّها السّيد؟

أجاب: من العاصمة بيروت.

فقال الشّيخ: لقد مضى عليّ عدّة أيّامٍ وأنا هنا أتمتّع بإجازةٍ صيفيّةٍ أبعدتني عن العاصمة. فهل من جديدٍ فيها؟

أجاب الضّيف: أجلْ، لقد وصلت بالأمس إلى الميناء، بارجةُ حربيّة فرنسيّة. ويقال بأنّها ستكمل غدًا طريقها إلى زحلة.

وما أن سمع الشّيخ عبارته الأخيرة هذه، حتّى صاح مناديًا: «بدِبس يا لْبِيبةِ بدِبس». ثم سأل ضيفه مستفسرًا: هل قلت إنّها ستصعد إلى مدينة زحلة، عروس سهل البقاع؟

أجاب الضّيف: أجل هذا ما أخبرني به أحد العاملين في المرفأ.

فقال الشيخ في سرِّه: رحم الله من قال «المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، لا بما يرتديه من جميل أو غالي الثياب».

 

[1] الكُبران: ثوب إلى الوسط يلبس فوق الصدرية..