المحافظةُ على البيئة من واجباتِ المسلم
لا يختلفُ مسلمانِ في أنَّ الله تعالى هو وحدَه المالكُ لما في السمواتِ والأرضِ وما بينهما وما تحت الثرى: {لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (طه 6)، و{لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ…} (المائدة 120)، و{أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ…} (يونس 66). كما أنه تعالى هو {الَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَالأَرْضَ…} (إبراهيم 32). وأنّ الإنسان هو أحدُ مخلوقاتِه، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} (ص 71).
ولكنَّه تعالى ميَّزَ الإنسانَ عن باقي مخلوقاتِه بأن جعلهُ خليفةً في الأرض، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…} (البقرة 30).
هذه الخلافة لا تقتصرُ، فقط، على آدم، عليه الصلاة والسلام، إنّما جعلها الله لبنيهِ إلى ما شاء تعالى، هذا ما نفهمه من قوله عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ…} (الأنعام 165)، وكما يفسّرُه ابنُ كُثير إذ يقول: «أي جعلكم تعمرونها جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن وخلفًا بعد سلف». {…وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ…} (النمل 62).
وما نفهمُه من قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ومن قولهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ…}، أنَّه تعالى أوكلَ إلينا، نحن بني الإنسانِ، استثمارَ خيراتِ هذه الأرضِ التي نعيشُ عليها، بما فيها من باقي المخلوقاتِ، وسخَّرَ لنا ما في السموات وما في الأرضِ وما عليها. والآياتُ التي تؤكِّدُ ذلك كثيرةٌ أكتفي بذكرِ التالياتِ منها: {…هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…} (هود 61)، «{وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي جعلكم عمّارًا تعمرونها وتستغلونها»، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ…} (الحج 65)، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية 13)، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم 33).
وبما أنَّه تعالى أوكلَ إلى بني آدمَ استثمارَ خيراتِ هذه الأرضِ التي نعيشُ عليها، بما فيها من سائرِ المخلوقات ومن المواردِ والخيرات، فإنَّ على هذا الوكيلِ أو المستثمرِ واجباتٍ تُجاه ربِّه، مُوكّلِه. وإلى جانبِ تقيُّدِ هذا الوكيلِ بجميعِ الأحكامِ والمفاهيمِ والشُّروطِ التي فرضَها عليه خالِقُه، فقد فرضَ عليه أيضًا، مقابلَ هذا الاستثمارِ، واجباتٍ عديدةً أُخرى، نذكرُ منها ما يخصُّ موضوعنا هذا:
إعمارُ الأرض:
وإعمار الأرض بالإضافة إلى أنه حاجةٌ مهمّة لعيشِ الإنسانِ عليها، فهو أيضًا واجبٌ عليه مُذْ جعلَهُ الله خليفة فيها ليعمرها: {…هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…} (هود 61). وفي معنى استعمركم يقول الفراهيدي: «استعمر الله النّاسَ ليَعْمُروها»[2]. وقول ابن كثير، الذي أوردناه سابقًا: «أي جعلكم عمارًا تعمرونها وتستغلونها». ومن يُعمِّرُ لا يخرِّب.
المحافظةُ على الأرضِ ومواردها وعدمُ إفسادِها:
كم قرأنا في عقود استثمارٍ كثيرة، عبارة مثل: «إن على المستثمر رعايةَ المال المستثمَرِ رعايةَ الأبِ الصالح»، أو «إنّ هذا المالَ هو في عهدةِ المستثمرِ على سبيل الأمانة»، فكذلك أمرَنا الله تعالى بالمحافظةِ على هذه الأرض، التي استخلفنا فيها ولنعيش عليها، وبالمحافظة على مواردها بعدم الإفساد. وهذا يكون بأن يحافظ كلٌّ منّا على البيئة التي يعيشُ فيها وأن يبقِيَها صالحةً لمن سيتسلَّمُها من بعده، وكثيرًا ما يكونُ من أبنائه أو أحفاده، وأن يحافظَ أيضًا على مواردها التي يستخدمُها في عيشته، سواء بعدم الإفراط في استغلالها أم بعدم التسبب بإفسادها أو بإفساد جُزءٍ منها، من جراء ما يقوم به بُغية استثمار هذه الموارد.
وكلُّ ما نسميه اليومَ عُرفًا: «ملكُ الإنسان» هو في الحقيقة أمانةٌ لديه، وواجبُ المؤتمَنِ المحافظةُ على الأمانة وألّا يتصرف فيها على هواه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال 27)، {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون 8). وفي النّهاية عليه أن يردَّها إلى مالكِها الحقيقي الواحدِ الأحد: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا…} (النساء 58)، {…وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَالأَرْضِ…} (آل عمران 180).
والآياتُ التي تنهَى عن الفسادِ بجميعِ أشكالِه، عديدة. وقد أحصينا منها في كتابنا (دليل الموضوعات في آيات القرآن الكريم)، نيّفًا وخمسين آية. نكتفي منها بما يلي:
{… كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة 60)، و{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة 205)، {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا …} (الأعراف 56)، {… وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص 77).
قد يقولُ بعضُهم: إنَّ المقصود بالفساد هو فسادُ الأخلاقِ، والسلوكُ غيرُ السّويِّ ولا علاقة لهذا الفساد بالبيئة. وللجواب على هذا نكتفي بما قاله ابن كُثير في تفسيره للآية 205 من سورة البقرة، المدرجة آنفًا: «… وإهلاك الحرث، وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل، وهو (أي النسل) نتاج الحيوانات، اللذين لا قوام للناس إلا بهما.»
وفي الحديث «أن النبيﷺ مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جار».
فالعمل الصّالح يا أخي المسلم وطاعةُ الله تعالى، خيرٌ تقدمه لنفسك، {…وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة 110) (صدق الله العظيم).
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 433 تاريخ 15/3/2019.
[2] كما في المعجم المعروف باسم: (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي.