«راحتين وكمشة»

«راحتين وكمشة»[1]

في أوائل ثلاثينيّات القرن الماضي عَهِد أحدُ الوجهاءِ إلى نسيبٍ له، يُدعى «فارس»، في الإشراف على أعمال بناء منزلٍ له قيد الإنشاء في بلدته، فعملُه في بيروتَ لم يكن يسمح له بالإشراف بنفسه على ذلك. وكان فارسٌ من كبار أصحاب الأملاك في قريته المجاورة لبلدة ذلك الوجيه، كما كان، عند فراغِهِ من الاعتناء بأملاكه، يعملُ في تكسير وتفجير الصّخور وقلعها، «مقلعجي»، (تسميةٌ يطلقُها اللبنانيون على هذه المهنة على الطريقة التركيّة). وقد أكسبَه عملُه هذا قوّةً جسديّة إضافيّة لما حباهُ الله من بُنْيةٍ خارقةِ القوّة. كما كان طيّب القلب متواضعًا حسنَ السّيرةِ حميدَ الأخلاق حافظًا للأمانة. ولم يُعرف عنه يومًا أنَّه اعتدى على أحدٍ أو اعتدَّ بنفسه أو تفاخر بقوتهِ الجسديّة.

ومما يروى عن قوّته تلك، أنّه كان في أحد الأيّام يعمل في إحدى حقلاته مستعينًا بأحد العمّال الزّراعيين الغرباء عن القرية وجوارها. وكانت تلك الحقلة عبارة عن بضعةِ «جلالٍ[2]» متدرجةٍ على منحدرٍ سريعٍ من الأرضِ ما جعل «الجِلال» قليلةَ العرضِ، كما هي الحال في كثيرٍ من منحدرات جبل لبنان. وتشاءُ الصُّدفُ أن يكون ذلك العامل من المُعتدّين بقوّتهم الجسديّة ومن هواة التفاخر «بصولاته وجولاته» التي لم يهدأ لسانُه عن التبجّح بها حتّى ضاق ذرعُ فارسٍ بثرثرة ذلك «البطل»، فدعاه للاقتراب منه بالحال. وما أن وقف أمامه حتّى قال له فارسٌ: «فلقتني[3]»، ثم عاجله بلطمةٍ[4] شديدةٍ على خدّه جعلته ينقلب ثم ينطرح على أرض «الجلِّ» التّالي. بعد هذه المفاجأة وقف ذلك المغوار رافعًا يديه وهو يقول لفارسٍ: «بعرضك يا شيخ أنا مش من رجالك[5]».

ومن محبّته لنسيبه أخذ فارسٌ على عاتقه، أيضًا، تأمين كلّ ما يلزم لبناء المنزل من الحِجار الصخرية. فكان أن عرض على المهندس المشرف على البناء عيّنةً كان قطعها من إحدى الصخور الكبيرة وغير البعيدة عن موقع البناء. وبعدما تفحّصها المهندس وافق عليها. ولكن لمّا تعرف على موقعها، أشار على فارِسٍ بأخذِ الحذرِ عند تفجير الصّخور وبالاعتدالِ في كميات البارود ونصح له ببعض النِّسبِ لتلك الكمّيّات حسبَ حجمِ الصّخرة، نظرًا لموقعها في أعلى منحدرٍ سريعٍ جدًّا وفي أسفله إحدى البلدات المجاورة.

بدأَ فارِسٌ بتكسير الصّخورِ الصّغيرة نسبيًّا بما توفّرَ لهُ من معدّات. ولكنّها لم تكن كافية لحاجة البناء بالكامل. فتحوّل إلى الكبيرة التي كان عليه أن يُكسِّرها بالتفجير. وهذا يقتضي أن يخْرِقَ وسطها بالمِطرقة والإزميل بحفرة قد يبلغ عمقها نحو العشرين سنتيمترًا أو يزيد وقُطْرُها نحو الخمسة سنتيمترات يحشوها بالبارودِ المضغوط والمرصوص ثمَّ يوصلُها بشريطٍ من الفتيل بطولٍ يسمح له أن يُشعَلَه عن بعد كافٍ لينفجر البارودُ فتتكسَّرَ الصّخرة قِطعًا مختلفة الأحجام، ومن دون أن يتعرّضَ هو أو من معه لأيِّ أذًى، قد يسبِّبُه ما يتطاير من القطعِ الحجريّة تبعًا لقوة الانفجار.

ولكنْ ما أن فجّرَ فارسٌ أُولى تلك الصّخورِ حتّى طارتْ قطعةٌ منها، جاوز حجمها المترين المكعبين ممّا يعني أن وزنها يبلغ بضعة أطنانٍ، وراحت تتدحرجُ على ذلك المنحدر باتجاه البلدة في أسفله، مكسِّرةً ما تصطدمُ به من جذوع الأشجار الحرجيّة الكثيفة التي تغطّي ذلك المنحدر، إلى أن تدخلت العنايةُ الإلهيّة فأوقفها جذعُ شجرةِ زيتونٍ معمّرة على بُعد أمتارٍ معدوداتٍ من أحد منازل تلك البلدة التي نجت من كارثةٍ كانت محقّقة.

بلغ الخبرُ سمعَ المهندس فسارع في الحضور من بيروت لاستجلاء الأمر. وبعدما عاينَ تلك الصخرة المستندة على جذع الزيتونة المباركة، صعِدَ إلى مكان التّفجير فهاله منظرُ العديد من القطعِ الصّخرية المختلفة الأحجامِ والمتناثرة حول مكان الصخرة الأمّ وبأبعادٍ مختلفة، وقدّر بأنّها قد تكفي لنحتِ ما قد يفيضُ عمّا يلزم من الحجارة لإتمام ذلك البناء. ثم توجّهَ إلى فارسٍ مستفسرًا عن كمّيّة البارود التي استعملها في ذلك التّفجير.

فأجابه: لم أزدْ عن المقدار الذي أشرتَ به عليَّ.

فسأله: وكم كان ذلك؟

فقال: «راحتين وكمشة». أي ملء راحتين وحفنة من كفِّهِ.

فقال المهندس: أرني تلك الرّاحة.

فلمّا بسط فارسٌ كفّهُ أمام ناظري المهندس، قال له هذا الأخير: بالله عليك، أتُسمِّي هذهِ راحة؟ فما هي والله سوى «رفش».


[1]  حكاية حقيقية عرفت بطلها «فارسٌ» (اسمٌ مستعار) بنفسي وكنت لم أزل دون العاشرة. 

[2]  لقد فرضت طبيعة الأرض الجبلية الصعبة وانحداراتها على أبناء جبل لبنان أن يسوّوا الأرض لزراعتها على شكل الدرج وأطلقوا على كلِّ درجةٍ اسم «جلّ» وجمعوها على «جلال أو جلالي». وقد يرتفع أحيانًا حائط الجلِّ إلى مترين أو ثلاثة.

[3]  يقال فلق الشيء فانفلق بمعنى شقّه. ويقول ابن الجبل «فلقتني» لمن يزعجه بكثرة الكلام أو الثرثرة أو المفاخرة الفارغة أو غيرها.

[4]  اللَّطْمُ: ضَرْبُك الخدَّ وصَفْحةَ الجسد ببَسْط اليد، وفي المحكم: بالكفّ مفتوحة، لَطَمَه يَلْطِمُه لَطْمًا ولاطَمَه مُلاطَمةً ولِطامًا. أما الصفعُ فيكون في أَن يَبْسُطَ الرجل كفه فيضرب بها قفا الإِنسان أَو بدنه.

[5]  أي أنا لست من أندادك يا شيخ ولا ممن يبارونك.