«حلا والقَيْمَة»
من عادات أبناء جبل لبنان المتوارثة في الأعراس، أن يذهب العريسُ بموكبٍ، يضمُّ الكثير من أقاربه وأبناء قريته، «لردِّ العروس» أي لإحضارها من منزل ذويها إلى منزلها الزّوجي. وقبل توفّر السّيارات ووسائل النّقل الحديثة كان يتمّ الانتقال سيرًا على الأقدام، حتى ولو كانت العروس من غير قرية العريس، وكانوا يصحبون معهم فرسًا مزينةً مجلّلة لتليق بحمل العروس على ظهرها. وكانت أصوات الموكب لا تنقطع عن «الِحدا»[1] والزغاريد، والأهازيج والغناء ذهابًا وإيابًا. وإذا كانت العروس من غير قرية العريس فكانت العادة تقضي بأن يكون في عداد الموكب شخصٌ قويّ الجسم يمكنه «رفع القَيْمَة». و«القَيْمَة»، وقد تسمى «العَمْدَة» في بعض المناطق، كانت عبارة عن قطعةٍ منحوتةٍ من حجر ثقيل غالبًا ما تكون جُرنًا، كجرن الكبّة، في نقرته عودٌ معترضٌ يسمونه«خابورًا»، أو «مدحلة[2] سطح»، (ومنهم من يقول«محدلة») كانوا يرصُّون بها أسطح البيوت الترابية في الشتاء لمنع«الدَّلْف»[3]، وكان يتولى إحضارَ هذه«القيمة» شابٌ من قرية العروس، وبعدما يطرحها أرضًا يعود ويرفعها فوق رأسه أمام رفاق العريس، وكانوا يسمونهم«العرسية»، ثم يرميها وينتظر أن يقوم أحدُ هؤلاء بـرفعها كما فعل هو. وإن لم يتمكن أيٌّ منهم من ذلك، تتم «ردَّةُ» العروس من دون الأهازيج والزّغاريد، ويغادر الموكب صامتًا إلى ما بعد حدود القرية. وكان «رفع القيمة» يتكرر عند مدخل كلّ قريةٍ أو بلدةٍ قد يمرُّ فيها الموكب. وإن رُفعت «القيمة» رافق أبناءُ هذه البلدةِ الموكبَ بالأغاني والزّغاريد حتى حدود بلدتهم، وإلّا أكمل الموكب سيره صامتًا، ومن دون أي مرافقة، إلى ما بعد حدود البلدة. ومع الأيام وتوفر وسائل النقل أصبح يقتصر «رفع القيمة» على بلد العروس إلى أن انقرضت هذه العادة كليًّا في خمسينيات القرن العشرين. وكانت عماطور أول بلدة تلغيها. ويعود ذلك إلى القوة الجسدية الخارقة لأحد أبنائها، الشيخ أبو علي بشير أبو شقرا، لأن «القيمة» التي كان يرفعها، كان من المستحيل على غيره أن يرفعها.
وقد حصلت هذه الحادثة الطريفة[4] إبّان حقبة التّخلّي عن تلك العادة:
انطلق «العرسية» من كفرنبرخ، «لردِّ عروسه» من «مزرعة الشوف» التي تبعد عن «كفرنبرخ» نحو العشرة كيلومترات. كان الموكب مؤلفًا من بضع سيّارات و«بوسطة» (حافلة) واحدة. وفور انطلاقهم أطلق السّاقة العنانَ لأبواق السّيارات، كعادة، يبدو أنهم استعاضوا بها عن الأهازيج والأغاني و«الحِدا» يوم كانت مواكبهم راجلة.
وعندما اقترب الموكب من منزل العروس أُوقفِت السّياراتُ وترجّل راكبوها، وبدأوا بالأغاني والأهازيج على ألحان «الدربكة» و«المجوز» إلى أن بلغوا باحة المنزل فتوقفوا على بعد بضعة أمتار من بابه الرئيسيّ، كما كانت تقضي الأعراف. وكان المنزل يعجُّ بالأقارب والأصدقاء من أبناء تلك البلدة. فخرج والدا العروس ومن حضر من وجهاء العائلة لاستقبال القادمين. فبادر هؤلاء، بصوتٍ واحدٍ يردّدون كلماتِ والد العريس من عبارات التّحيّة والسّلام والسّؤال عن الخاطر، وأهلُ الدَّار يجيبونهم بعبارات الشّكر والتّرحيب والتّأهيل، وكلّها بجملٍ منمّقة متوارثة عن السّلف، وكان لكلّ جملة جوابها. حتى إذا فرغوا من هذه المجاملات دعا المستقبلون القادمين إلى الدّخول، فدخل مع العريس والداه وكبارُ الوفد، بالمقابل خرج الشّباب من المنزل إلى الباحة لإخلاء المقاعد للضيوف، ولمشاركة سائر القادمين بالغناء والأهازيج و«الدبكة».
لاحظ سُليمان، أحد كبار القادمين، وجود «جرنٍ» بإحدى زوايا الباحة، فأيقن أنّ أهل العروس ينوون طرح «القيمة»، الأمر الذي سها عنه «العرسية» لأنّهم كانوا قد تخلّوا في قريتهم عن هذه العادة، أسوة بالكثير من قرى الشّوف، ولذا لم يصطحبوا من يقوم بهذه المهمّة. ولكنّه تذكّر أنّ من بين أفراد الموكب امرأةً، تُدعى «حلا»، ذات بُنية قويّة تضاهي قوّة أشدِّ الرّجال. فأرسل من يطلب منها معاينة «القيمة» وما إذا كانت تستطيع رفعها، فعاد الرسول بالجواب الإيجابيّ.
بعد قيام أهل المنزل بواجب الضّيافة، توجّه والد العروس، كما تقتضي العادات والتقاليد، إلى ابنته وأقامها عن كرسيّها ثم أمسك بذراعها الأيسر وتوجّه الاثنان نحو العريس ووالده، كما تقدم العريس بدوره وصافح حماه وتسلّم منه يد عروسه وهو يجيب على وصايا ه، بالتّعهّد برعايتها والاهتمام بشؤونها كقوله: ستكون في قلبي وعينيّ. ثم تأبّط ذراعها وسار الجميع نحو الباب الخارجي.
وما أن وطئت أرجل العروسين ووالدَي العريس أرض الباحة، حتّى ظهر شابٌ من أقرباء العروس حاملًا «القيمة» فطرحها أرضا ثم عاد ورفعها بيديه الاثنتين فوق رأسه ثم رماها أرضًا. فوجئ «العرسية» بذلك، وراح كلٌّ منهم يجيل ناظريه في وجوه الآخرين، صامتين لا يدرون كيف الخروج من هذا المأزق. فإذا بحلا تخرج من بين المحتفلين، وتقول بصوت الواثق من أمره: عذرًا يا شباب كفرنبرخ، ويا مشايخ «المزرعة» الكرام، إنَّ هذه القيمة ومثيلاتها ليست لرجالنا، بل هي لنسائنا.
فتقدمت منها وأمسكتها كما فعل ذلك الشاب ورفعتها فوق رأسها ثم عادت وطرحتها أرضًا. فعلا التّصفيق ممزوجًا بعبارات التّكريم والتّمجيد بحلا ومثيلاتها من النّساء.
وهكذا غادر موكب العروسين ذاك المنزل والبلدة عائدًا إلى «كفرنبرخ»، بـ«الحدا» والأهازيج والأغاني والموسيقى. ولم ينسَ السّاقة، أيضًا، أبواق سياراتهم.
[1] يطلق العامة اسم «الحدا» على نوع من الغناء يرددونه في المواكب. ويبدو أنها مأخوذة من: حدا يحدو حدوًا، والحَدْوُ سَوْقُ الإِبِل والغِناء لها.
[2] لعلها اشتقت من الدَّحْل: المطمئِنُّ من الأرض (مقاييس اللغة). وهي أسطوانة صخرية ملساء يتراوح قطرها بين 30 و40 سم. وطولها من 70 إلى 80 سم. قد يزيد وزنها عن 50 كيلوغراما تلقط من جنبيها بقضيب حديدي معقوف تدحرج بواسطته فوق تراب السطح ويسمى «معوس» أو «ماعوس».
[3] أي تسرب مياه الأمطار عبر تلك الأسطح إلى داخل المنزل.
[4] حكاية حقيقية رواها لي أحد من عايشوها من أبناء عماطور. وكان العريس من أبناء «كفرنبرخ» ولكني نسيت اسم قرية العروس. ولأن الراوي قد توفاه الله فقد نسبتها إلى «مزرعة الشوف». كتبتها بتصرف ووضعت لأشخاصها أسماء مستعارة. ومنهم من قال بأن من أسميتها «حلا»، كانت من عماطور وزوجها من كفرنبرخ.