العلمنة الكيبيكية
يبدو أنّ السيد فرانسوا لوغو، وأفرادَ حكومته، ماضون في تنفيذ وعودٍ انتخابيةٍ، ضاربين عرض الحائط بما إذا كان تنفيذ بعضها قد يُشكِّلُ مخالفاتٍ دستوريةً أو إنسانيةً أو أضرارًا على شريحة واسعة من المواطنين. فبعد تلْفِ ثمانية عشر ألف طلب هجرة، ما ألحق الضرر بنحو خمسين ألف إنسانٍ، قدّموا إلى الجمعية الوطنية في كيبيك، مشروع القانون 21 في عَلمَنة الدولة، والذي ينصُّ على حظر ارتداء الرموز الدينية على موظفي الحكومة، كالقضاة وضبّاط الشرطة والمدّعين العامّين وحرّاس السجون، بالإضافة إلى معلمي المدارس الابتدائية والثانوية المنتمين إلى القطاع العام، «انطلاقًا من مبدأ الفصل بين الدولة والأديان، والحياد الديني للدولة، والمساواة بين جميع المواطنين، وحرّية المعتقد والدين.»
لستُ هنا بصدد الاعتراض على النظام العَلماني، لأنّني من مؤيدي فصل الدين عن الدولة، كما أنّني أرى انّ الدين شأنٌ بين الإنسانِ وربِّه. ولست كذلك في معرض الدفاع عن الرموز الدينية أو من يرتديها أو يحملها، ولكنّي أرى في مشروع القانون هذا مخالفةً لمبدأ الحرية الشخصية التي يكفلها الدستور والشرعتان الكيبيكية والكندية، وشرعةُ حقوق الإنسان التي أقرّتها منظمة الأمم المتحدة واعترفت بها أيضًا الحكومة الكندية.
فباسم الحرية الشخصية شَرَّعَت الحكوماتُ المتعاقبةُ، المساكنةَ التي هي بمفهوم الأديان كلِّها، زِنًى موصوفٌ. وإنِّي أرى فيها أهمَّ العواملِ والأسبابِ التي تؤدّي ليس فقط إلى تفكيك الأسرة بل إلى انحلالها وإلغائها أيضًا، وفي هذا تفكيكٌ مؤكّدٌ للمجتمع، لأنّ الأسرةَ أساسُ المجتمع.
وباسم الحرية الشخصية شرَّعتْ أيضًا زواج المثليين، بل لم تكتفِ بالسماح لهم بالمساكنة، ولا باللِواط والسّحاق، وإن كانت الأديان تحرِّمهما، فالحيوانات لا تمارسهما.
وباسم الحرية شُرِّع «التحشيش». وباسم الحرية الشخصية سُمح للنساء السيرُ في الطرقاتِ شبهَ عارياتٍ. وفي القوانين نصوصٌ تجرّمُ التحرُّش. فبالله عليكم، يا سيد لوغو وزملاءه، ماذا ستقولون لرجلٍ رأى إحدى تلك النساء وقد خُيِّلَ إليه، وهو تحت تأثير الحشيش (القِنّب)، أنَّها بِعُريّها تراوده عن نفسه؟ ثم أتعتقدون أن روح النّبيّ يوسُفَ قد حلّتْ في جميع الرجال؟ وخاصةً إن كانوا «محشِّشين»؟
بعد كلِّ هذه التشريعات والإباحات باسم الحرية، تعملون على منع مواطنٍ من أن يضعَ على رأسه قلنسوةً أو على صدره صليبًا، أو سيدةٍ من أن تُغطِّيَ شعرها. أليست هذه أيضًا من الحريّات الشخصية؟ فعن أيّ حريةٍ أو مساواةٍ تتحدثون؟
وكم أخاف أن يأتِيَ يومٌ تصبحُ فيه ممارسة العلاقات الجنسية، وباسم الحرية الشخصية أيضًا، علنيةً على الطرقات وفي الحدائق العامة والأسواق التجارية… ويُنبَذُ فيه المحتشمون.
ثمَّ لماذا لا تسمحون، وباسم الحرية أيضًا، بقيادة السيارة تحت تأثير الكحول أو الحشيش؟ ستقولون بأن هذا يشكِّلُ خطرًا عليهم وعلى الآخرين. هذا صحيح، ولكن ألا ترون خطرًا على المجتمع ولو في واحدٍ مما شرَّعتم أو سمحتم به؟ أم أنّ الخطر على المجتمع أصبح محصورًا في أصحاب الرموز الدينية فقط؟
فهل لك يا سيد لوغو أن تشرح لنا مفهومَكم للعَلمنة؟ هل هي حقًّا فصلُ الأديان عن الدولة؟ أم هي حربٌ على الأديان وما فيها من قيمٍ؟ أم أنّكم تسعون منذ اليوم لكسب بعض الأصوات الانتخابية للدورة القادمة؟ فأيهما أهمّ يا سيد لوغو، مقعدٌ في البرلمان أم سلامةُ الدولة والمجتمع؟ أنا أفهم العلمنة ألا يكون الدينُ مصدرَ القوانين والأنظمة في الدولة، خوفًا من أن يتدخلَ رجالُ الدين في شؤونها. وهذا لا يعني تدميرَ الأديان، أو التخلِّي عن القيمِ والمثلِ الإنسانية والقواعد الأخلاقية، التي من دونها تعود المجتمعات إلى شريعة الغاب. ستقول يا سيد لوغو، بأنّ القوانين والأنظمة وشرعة الحقوق الكيبيكية ترتكز على تلك القيم والمثل والقواعد. وهذا ما أعرفه جيدًا، ولكنَّ النصوصَ شيءٌ وتطبيقَها أمرٌ آخر. وإذا كان الدستور يضمن حرية الدين، افلا يكون في تدمير الأديان مخالفة للدستور؟ فكيف أسكن بيتًا لا سقفَ ولا أبوابَ له؟
ويحضرني هنا ما حصل في إحدى دول الشرق العربي في ثمانينيات القرن الماضي: يوم أثارت إحدى الجماعات الدينية أحداث شغب بوجه نظام تلك الدولة. ومن الأساليب التي اتبعها ذلك النظام لمحاربة تلك الجماعة، أن راح أفرادُ أحد أجهزته الأمنية يعملون على نزع «الحجاب» (وتسمية الحجاب خطأ لغوي، والصواب هو الخمار) عن رأس أي امرأة «محجبة» وأينما رأوها. فكانت ردَّة فعل المواطنين عكسيّةً، فعوضًا عن أن يتضاءل عدد «المحجبات» فقد تضاعف مرَّاتٍ، لا مرة واحدة، كذلك أصبحت المساجد تغصُّ بالمصلّين، ما جعل كثيرين منهم يصلّون على الطرقات أمام أبواب المساجد. لم يكن كلُّ ذلك من قبيل التقوى إنما كان نَكالًا بذاك النظام.
فتأكد يا سيد لوغو، أنّه إذا كان عدد «المحجبات»، اللواتي ترونهم اليوم في الطرقات والشوارع، يقدّرُ بالمئات فسترونهنَّ غدًا بالآلاف. وكذلك عدد حاملي الصليب ومعتمري القلنسوة وغيرِهم ممّن يشملهم مشروع قانون العلمنة هذا. فحبذا لو تتعظوا من تجارب الآخرين.
ولذا أنصح لك يا سيد لوغو ولحكومتك وحزبك، بخاصَّةً إذا كنتم تأملون في الربحِ في الانتخابات القادمة، بأن تعودوا لا عن هذا القانون فقط، بل أن تدرسوا جيدًا، في المستقبل، وعودكم الانتخابية، وآثار تنفيذِ أيٍّ منها قبل صياغة نصوص تنفيذها أو نصِّ أيّ مشروع آخر.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 435 تاريخ 17/4/2019. وكيبيك هي كبرى المقاطعات الكندية بالمساحة، وثانيتها بعدد السكان.