مسؤولية فرنسا عن حادثة «شارلي إيبدو»

مسؤولية فرنسا عن حادثة

«شارلي إيبدو»

يفاخر الفرنسيون بأنّ قوانينهم تصون الحريات، بما فيها حرية الرأي والمعتقد والتعبير، انطلاقًا من شعار دولتهم: «حرية – إخاء – مساواة». والرأي والمعتقد ملازمان لنفس صاحبهما ويبقيان من أسراره ما لم يعبر عنهما، وهذا التعبير يكون على ثلاثٍ: قولًا أو كتابةً أو رسمًا، أو باثنين منها أو جميعها. ويقول كثيرون منهم بأنّ حرية التعبير لا حدود لها. ولكن هل في الدنيا حرية مطلقة؟ بالتأكيد، لا، ومن تخطى حدود حريته أصبح معتديًا على غيره. فإذا كان أحد الصَّحفيين، مثلًا، يظنّ أن مسؤولًا ما فاسدٌ أو سارقٌ أو زانٍ، فهل يحق له أن ينعته علنًا بإحدى الصفات المعبرة عن رأيه هذا؟ بالتأكيد سيتعرض ذاك الصَّحفي للملاحقة القانونية، إذا لم يقدِّم دليلًا حسّيًّا لقوله، وهذا أمرٌ طبيعيّ ويكفله القانون الفرنسي لأنّ في عمل ذاك الصَّحفي إهانةً لذلك المسؤول، وبالتالي أذًى معنويًا له قد يتحول إلى مادي. أمّا إذا أهان ذاك الصَّحفيُّ نبيًا أو رسولًا فيعتبرونه من قبيل حرية التعبير، على الرغم من أنّ تلك الإهانة قد تسبّب أذًى لمليارات البشر.

فإذا كانت أذيّة شخصٍ واحدٍ ممنوعةً قانونًا فلماذا لا يمنع القانون أيضًا أذيّة أولئك المليارات؟ وهل يستندون في هذا على أن الجريمة الصغيرة يجب أن يعاقب مرتكبُها، أمّا الكبيرة فتكون قابلة للتسوية!؟

ثم لم ننسَ بعد أن في العام 1998 حكمت محكمة فرنسية على المفكّر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، بالسجن مدة سنة بتهمة «التشكيك» فيما يسمى «إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين» وذلك لأنه قال، في كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل»، بأنَّ الأرقام الشائعة حولها، مبالغٌ فيها، ومن دون ينفها. وقد كان يومها في الخامسة والثمانين من سني العمر، فالقانون الفرنسي يمنع الخوضَ في أيّ من أمور تلك «الإبادة»، بحجة أنّه قد يسبب أذًى معنويًا لنحو خمسة عشر مليون يهودي في العالم أجمع. فأين أصبحت هنا حرية التعبير!؟

أما من يسبب أذًى لمليار وخمسمائة مليون مسلم برسوم بذيئة ومهينة لنبيهم ﷺ، أو من يصور المسيح (عليه الصلاة والسلام) «متهتِّكًا» أو «مثليَّ الجنس»، ومريم العذراء، (ع) «عاهرة»، اللذان يعتبرهما المسيحيون والمسلمون، على حدًّ سواء، «رمزي القداسة والطهارة»، ولا دليل لدى ذاك المصور على ذلك سوى الكره والحقد أو الإلحاد، فهذا يعتبرونه من حرية التعبير!! على الرغم من أن في عمله هذا أذًى معنويًا لما يزيد عن الأربعة مليارات من المسيحيين والمسلمين مجتمعين!!

وأن تسير امرأة في شوارع باريس شبه عارية فيعتبره القانون من حريتها الشخصية، أما أن تغطي أخرى شعرها فهذا مخالفٌ لقانون العلمنة الفرنسي وبالتالي هي ليست حرّة! أقول هذا على الرغم من قناعتي بأن غطاء الشعر هذا ليس من رموز دين الإسلام بل هو عادة متوارثة منذ ما قبل الإسلام، بدأ التخلي عنها مع بداية القرن العشرين ثم عاودت الظهور في الربع الأخير منه مع هذه الموجة من التعصّب والجهل الذميمين.

«مسكينة أنتِ أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك»!؟

إنَّ من يريد أن يحمي بيته من اللصوص عليه ألّا يترك لهم منفذًا يدخلون إليه منه. كذلك على الدولة التي تريد حماية مواطنيها أن يكون في قوانينها، لا المساواة والعدالة فقط، بل ما يقفل الأبواب أمام المجرمين. فلو كانت السلطات الفرنسية قد وضعت في قوانينها حدودًا لما تسميه «حرية التعبير»، فهل كانت لتحصل حادثة مجلة «شارلي إيبدو»، إن كان الدافعَ الحقيقيَّ، كما قيل، الانتقامُ منها لإساءتها إلى النبي محمد ﷺ؟ وإن كان العوز أحد الأسباب التي تدفع اللصّ إلى السرقة، فالتعصب الأعمى الناتج عن الجهل قد يدفع متشددًا «مغسول الدماغ» لارتكاب جريمة، مهما بلغ حجمها، معتقدًا أنّه فيها يحصِّلُ حقَّ وشرفَ نبيه؛ خصوصًا وأنَّ العالم أجمع يعاني منذ عدة عقود من جهل أولئك المتعصّبين المتشدّدين الذين نصَّبوا أنفسهم حماةً لدين الإسلام ولله تعالى ولرسوله ﷺ، وما هم في الحقيقة إلّا أعداء الإسلام والمسلمين.

ولهذا أقول: إنّ السلطات الفرنسية هي المسؤول الأول عن جريمة مجلة «شارلي إيبدو»، لأنها لم تقفل «النوافذ» في وجه أولئك المجرمين.


[1] نشر هذا المقال على صفحتي في الفيس بوك في 17/3/2015.