اعرف حليفك قبل عدوك
علمتني الأيام أن ليس كلُّ من ابتسمَ في وجهي وأسمعني كلامًا عذبًا، صديقًا. وقديمًا قيل: «احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة».
والحليف بين الأمم والدول كالصديق على المستوى الفردي. فإن خدعك عدوك في الحرب فقد تخسر معركة، أما إن خدعك حليفك فيها فقد تُدَمَّر بالكامل.
«الـخَدْعُ: إِظهار خلاف ما تُـخْفـيه. وخَدَعَهُ يَخْدَعُهُ خَدْعًا، وخِدْعًا أيضًا بالكسر، أي خَتَلَهُ وأراد به المكروه من حيث لا يعلم؛ والاسمُ الخَديعَةُ».
أسباب الخديعة
تتعدد الأسباب التي قد تدفع الفرد إلى ممارسة الخديعة، ومنها:
- المصلحة الشخصية: كأن يسعى الشخص إلى تحقيق منفعة شخصية، سواء كانت مادية أم معنوية، عن طريق الخداع.
- الخوف من الفشل أو الفضيحة: كاللجوء إلى الخديعة لتجنب المواقف المحرجة أو الفشل أمام الآخرين.
- الطمع: الطمع والرغبة في الحصول على شيء غير مستحق، قد تجعل الشخص يختار خديعة الآخرين لتحقيق رغباته.
- الضغط الاجتماعي: في بعض الأحيان، قد يكون المجتمع أو البيئة المحيطة هي التي تدفع الأفراد إلى استخدام الخداع كوسيلة للتكيف مع متطلباتها.
ولا أرى كبير فرقٍ بين الخديعة والنفاق والخيانة والغدر والمكر والمراوغة ونكث العهد والوعد، فجميعها مبنية على الكذب. ويقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾. وعن النبيَّ محمد ﷺ أنه قال: «أربعٌ مَنْ كُنَّ فيهِ كان مُنافِقًا خالصًا، وَمَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنَّ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا اؤْتُّمِنَ خان، وإذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غدرَ، وإذا خاصمَ فَجَرَ». ويقول الشاعر العباسي صالح عبد القدوس:
لا خير في ودّ امرئ متملّقٍ *** حلوِ اللسانِ وقلبُه يتلهّبُ
يُعطيكَ من طرفِ اللسانِ حلاوةً *** ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ!
ويمكننا أن نقسم الخديعة إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: خديعة الحواس:
وهي من عوامل طبيعية، كرؤية السراب، وحجم الظل مقارنة بالجسم، وشكل القلم مكسورًا في كوب الماء. وهذه لا تشكل أي خطر على البشر، فهي بالتالي خارجة عن موضوعنا.
ثانيًا: على مستوى الأفراد:
وتتنوع الخديعة، على المستوى الفردي، بين الأفعال البسيطة التي قد تمر من دون أن يلاحظها الآخرون، من جهة، والأفعال المعقدة التي قد تؤدي إلى تغيرات جذرية في حياة الأشخاص المتأثرين بها. ومنها:
- الخديعة الذاتية: وهي أن يخدع الشخص نفسه، فيخترع لنفسه صورة غير حقيقيّة عن واقع حياته أو عن قدراته، مما قد يعيقه عن النمو أو اتخاذ القرارات الصائبة. وهذا النوع من الخداع له آثار سلبية على الذات والقدرة على التعامل مع المواقف الحياتية.
- الخديعة الاجتماعية: وتتمثل في إخفاء الحقيقة عن الآخرين أو التلاعب بالمعلومات لأغراض اجتماعية، مثل إخفاء العيوب الشخصية أو تقديم صورة مزيفة عن الذات لتحقيق قبول اجتماعي أو مكانة أعلى.
- الخديعة المالية: وتشمل عمليات الاحتيال التي تستهدف المصالح المالية للأفراد أو المؤسسات، مثل الخداع في المعاملات التجارية أو الاستثمارية.
- الخديعة العاطفية: كأن يستخدم البعض الخداع في العلاقات العاطفية لتحقيق مصلحة شخصية، مثل إخفاء نواياهم الحقيقية أو تقديم وعود زائفة للحفاظ على علاقة مع الطرف الآخر أو السيطرة عليه.
ويُعتبر هذا السلوك من أسوأ الأفعال التي يمكن أن يمارسها البشر فيما بينهم، سواء كان ذلك على المستوى الفردي، أم الأمميّ أو الدُوليّ، وهذا أسوأ الخدع، فإن آذت أو دمرت الخديعة الفردية إنسانًا واحدًا بماله أو بشخصه، فالخديعة الأممية قد تدمر شعبًا بأكمله.
ثالثًا: على مستوى الأمم والدول، وهنا يكمن الخطر العظيم. وأراها على نوعين:
خداع رجال السياسة مواطنيهم، طمعًا بالمراكز أو لتغطية فساد سياساتهم لغايات شخصية مادية أو لمصالح جهات خارجية. وأكتفي بمثلٍ لم يزل شاخصًا أمام أعيننا، عنيت خداع الطبقة السياسية والإدارية في لبنان لإيهام مواطنيهم بأن وضع دولتهم المالي والمصارف، هو بخير. وإذا بهم يفاجؤون بأن الدولة شبه مفلسة، والمصارف توقفت عن الدفع، وأنهم ليسوا فقط أمام أزمة مالية حادة أشبه بالكارثة، لم يعرف لبنان أسوأ منها منذ إعلان تأسيسه في العام 1920، بل أنّ ودائعهم في المصارف أيضًا باتت حبرًا على ورق. وأصبح ما قد يزيد عن الثمانين بالمائة منهم عند خط الفقر أو تحته.
خداع الدول الأجنبية
1 – لفئات من شعوب الدول الضعيفة، أطلقوا عليها زورًا تسمية (أقليات)، مدعية التزامها بحمايتهم. ويخبرنا التاريخ بأن ما من فئة من شعبٍ ما قبلت تلك الحماية، سواء راضية أم مكرهة، إلّا وذاقت الوبال جرّاء تلك الحماية المزعومة.
وكمثال على ذلك، مجريات أحداث القرن التاسع عشر في جبل لبنان والاقتتال بين أبناء البلد الواحد. خدمة للصراع بين الدولتين العظميين (المتحضرتين)، في حينه، فرنسا وبريطانيا، للاستيلاء على ذلك الجبل، الذي يعتبر بمثابة قلعة طبيعية من استولى عليها تمكن من السيطرة لا على كامل أراضي سوريا الطبيعية فقط، بل على كامل البلاد العربية الآسيوية التي تمثل بحق بوابات قارات العالم القديم الثلاث. فكان أن استغلت كلٌّ منهما ما كان يعرف في قوانين السلطنة العثمانية، بالامتيازات الأجنبية التي كانت تعطي الحق لسفارات وقنصليات دول أجنبية، برعاية شؤون أبناء الطوائف من غير المسلمين، فادعت فرنسا بأن المسيحيين، وغالبيتهم من الطائفة المارونية، هم تحت حمايتها، وعملت أيضًا على إقناعهم بأنهم ليسوا رعايا فرنسيين فقط، بل أن الدروز أيضًا، يريدون طردهم من جبلهم.
ولما لم يتمكن الإنكليز من استمالة الموارنة راحوا يستميلون الدروز إلى جانبهم. ويقول الكولونيل روز في تقريره بتاريخ 1 تشرين الأول (أكتوبر) 1841: «إن الموارنة مستسلمون نفسًا وجسدًا إلى فرنسا … وعليه فلم يبقَ لإنكلترا أن تختار في الأمر بل أمسى من المحتم عليها عضدُ الدروز».
وترسّخ في نفوس الدروز وجود خطة للموارنة لطردهم من جبالهم، بعد أن كانوا أسيادها لقرون عديدة. ويؤكد هذا ما قاله رؤساء الطائفة: “من المشهور لدى الجميع وقد عم الخبر كل الأصقاع أن الموارنة وجهوا مساعيهم منذ سنة 1257 هجرية (1841 م) إلى طرد الدروز من جبالهم (لبنان الشرقي والغربي) وتوطيد أركان استقلالهم فيها…”.
وقد ألمح إلى هذا الأمر اللورد دوفرين في رسالتيه إلى السير بولفر (Bulwer) المؤرختين على التوالي في 14 و15 تشرين الثاني 1860.
وراحت كل من هاتين الدولتين تزود من تدعي حمايتهم بالمال والسلاح، لتأجيج التقاتل، خدمة لمصالح كل منهما.
فلو كان كلٌّ من هاتين الدولتين (المتحضرتين) تريد حقًّا حماية فريقها، فألم يكن من الأفضل أن تعملا على إزالة أي خلافٍ بين أبناء الوطن الواحد، عوضًا عن إعطائهم السلاح ليقتل الأخ أخاه؟
ولكن بالتأكيد كان لكلٍّ منهما غاية أو غايات من وراء “الكرم” في توزيع السلاح من دون ثمن أو بثمنٍ رمزي.
والمؤسف أنّ لبنان واللبنانيين ما زالوا حتى اليوم يعانون من آثار تلك الأحداث المختلقة بين أبناء الأرض الواحدة التي كانوا يعيشون عليها بوئام تام منذ مئات السنين.
2 – استغلال الإيمان الديني لعقول فئات من الجهلة وخدعهم بتفاسير مختلقة لمضامين تعاليم دينهم، خدمة لمصلحة تلك الدولة أو الدول غير المبالية بدماء وأرواح أولئك الجهلة. وخير مثالٍ على ذلك، إقناع ساسة الولايات المتحدة الأميركية، عدد لا يستهان به من المسلمين، بأنّ محاربة السوفييت في أفغانستان جهاد مقدس. فكان لها ليس فقط ما أرادت، بل أيضًا، مادة دسمة للتسويق أمام الرأي العام العالمي بأنّ دين الإسلام يدعو إلى إجبار الآخرين على اعتناق تعاليمه، وبإن إلههم وقرآنهم يحرضان المسلمين على القتل والذبح، في سبيل ذلك.
3 – خداع الدول للشعوب التواقة إلى الحرية والاستقلال بوعود كاذبة، خدمة لمصالحها الخاصة، بينما هي تضمر لهم الشرَّ. وخير مثال على هذا، خداع بريطانيا للشريف حسين بن علي، بوعدها له بإنشاء «دولة عربية مستقلة» تحت حكمه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بشرط أن يثور العرب ضد العثمانيين ويقاتلوا في صفوف الحلفاء، لزعزعة الإمبراطورية العثمانية التي كانت حليفًا لألمانيا. وكانت تلك الوعود على شكل رسائل من السير هنري مكماهون، المفوض البريطاني في القاهرة. (التي سميت فيما بعد بـ “مراسلات حسين–مكماهون).
وواقع ما حصل هو أنه: بنتيجة التشاور بين الشريف حسين وأعضاء كل من جمعية العربية الفتاة وجمعية العهد في سوريا، وضع أعضاء هاتين الجمعيتين في العام 1915، ميثاقًا للمشاركة في تلك الثورة يتضمن الشروط التالية:
«اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال البلاد العربية ضمن الحدود التالية شمال خط مرسي أضنة إلى ما يوازي خط العرض 37 شمالا، ثم على امتداد خط بيريجيك – أورفة – ماردين – ميدات جزيرة بن عمرو العمادية إلى حدود إيران شرقا. على امتداد حدود إيران إلى الخليج العربي جنوبا. جنوبا – المحيط الهندي باستثناء عدن غربا على امتداد البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط إلى مرسين،
«وجوب إلغاء جميع الامتيازات الاستثنائية التي منحت للأجانب بمقتضى الامتيازات الأجنبية. «احتمال عقد معاهدة دفاعية بين بريطانيا وهذه الدولة العربية المستقلة إذا حسنت النوايا وأفعال بريطانيا،
«احتمال تقديم بريطانيا وتفضيلها على غيرها من الدول في المشروعات الاقتصادية إذا حسنت أفعالها.»
«وعندما عاد فيصل إلى مكة كان يحمل معه الميثاق الذي وضعه أعضاء الفتاة والعهد ليكون أساسا لعقد الاتفاق بين العرب (الآسيويين) وبريطانيا. ولا تكمن أهمية هذا الميثاق في أن الشريف حسين اعتمده أساسا للمفاوضة مع بريطانيا وهو رمز نظيف محترم، بل لأنه أول قرار تتخذه جماعة منظمة من العرب بإنشاء دولة عربية مستقلة متحدة.»
«ولم يكن فيصل يحمل معه ذلك الميثاق فقط، بل كان يحمل معه أختام رجالات سورية بأجمعهم وكانت تتجاوز ال 200 ختم موضوعة في كيس. وكان إرسال هذه الأختام يعني تفويض الشريف حسين ليتحدث بأسماء أصحابها وأن يعقد بتلك الصفة اتفاقًا ملائمًا.»
ويقول أحمد الخطيب في ذكرياته: «أما الجيش البريطاني فكان يتقدم ببطء، ونحن شقينا طريقنا ليلا وكنا ننتقل من جهة إلى جهة ثانية ودخلنا دمشق من جهة الميدان في الصباح، فوجدنا الراية العربية مرفوعة على كل الدوائر الحكومية وفي الأسواق، وفي أكثر البيوت، حيث وصل قبلنا أحمد مريود والشيخ محمد الأشمر، ومعهم الراية العربية، وحال وصولهم إلى دمشق حقق أحمد مريود حلمه الكبير ورفع الراية العربية في دمشق عاصمة الأمويين والعرب على مر العصور، قبل دخول الجيش البريطاني، وكان ذلك في الثلاثين من أيلول 1918 م.» بينما وصل الرائد «آرثر أولدن»، في اليوم التالي 1/10/1918.
«وفي 3/10/1918 وصل الأمير فيصل، وكان دخول «أللنبي» إلى دمشق في اليوم نفسه، وعقد اجتماع بينهما وبحضور زعماء الحركة الوطنية.
فكان أن نكثت بريطانيا بوعدها، بعد خداعها لحليفها الشريف حسين ما يزيد عن الثلاث سنوات، «فقسم أللنبي سوريا الطبيعية إلى أقسام كغنائم حرب بين أطراف التحالف وفقا لتقسيمات سايكس بيكو». فوُضعت فلسطين والعراق والأردنّ تحت الانتداب البريطاني، وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
ثم قدمت بريطانيا، إلى مجموعات من البشر لملمت من أصقاع المعمورة، أرضًا لا تملكها، عنيت فلسطين، ليقيموا عليها دولة شكلت فيما بعد رأس الحربة للعمل على تدمير ما أمكن من البلدان العربية، بعدما هجرت معظم أصحاب تلك الأرض التي توارثوها منذ آلاف السنين.
فلو كان الشريف حسين، أو أيٌّ من رفاقه، يعرف أن ساسة بريطانيا، شياطين، مستغِلّون، ماكرون مخادعون، لا يحفظون عهدًا أو ذمةً، ولا يوفون بوعد، وأنّهم كانوا رعاة مؤتمر لندن في العام 1907، الذي اتخذ فيه القرار بتقسيم البلاد العربية، لتغيرت أمور ووقائع كثيرة.
مقدمة واعية للنفس الإنسانية وتحولها مع شرح واضح لما يتبع من متغيرات تؤسّس للعلاقة مع الاخر
المثال الذي أتى تفصيلا يعتبر درسا من التاريخ ليكون منارة المستقبل حتى يتوقف تكرار الخطأ القاتل الذي وقع فيه العرب تلك الحقبة من التاريخ حسب التفصيل المبين ،