البريد الأبيض

البريد الأبيض[1]

خمس قرى في لبنان كانت على عهد الأمير بشير الشهابي، بل مدة حكم الشهابيين جميعًا، مستثناة من بين سائر القرى، فلا ترجع في شؤونها ـ ولا سيما المالية منها ـ إلى رجال الإقطاع، بل كان الأمير الحاكم يتولاّها بنفسه، ويختصها بشيء من الإيثار[2] في المعاملات والمكاتبات، ويدعوها الضياع الخاصة[3] وكان أكثر أهلها على جانب من الثراء ولذا كانوا منصرفين عن العمل يقضون معظم أوقاتهم في مجتمعاتهم العامة يتحدثون ويتندرون. فأكسبهم ذلك خبرة في أحوال البلاد واطلاعًا على وجوه سياستها.

وكان الأمير بشير يوجه رسلهُ بالبريد إلى أنحاء لبنان. فكان الذي يتجهُ إلى الجنوب يمرّ بإحدى هذه الضياع فيرى جمهورًا من أهلها مجتمعًا في ساحة الضيعة. فيقفونهُ ريثما يتحدثون إليهِ ويسألونهُ عما لديهِ من جديد. ومنهم من كانت تحوم ظنونهم حول ما تضمنّهُ بريد الأمير فيتناولونهُ حدسًا وحزرًا.

مرَّ الرسول يومًا، فقالوا لهُ: في البلاد اليوم أمور كذا وكذا فلا بدَّ أن يكون الأمير قد كتب: كيت وكيت. ومرَّ ثانيةً، وثالثةً، فكانوا كلَّ مرة يقولون له مُقالتهم الأولى. وكان الرسول يخبر الأمير بما سمع كلّ مرة، فيعجب الأمير كيف اهتدى أولئك إلى معرفة الواقع.

وبعدُ أرسل الأمير رسولهُ في وقتٍ لم يكنْ في البلاد شيء هام، فلم يكتب شيئًا، وإنما قصد إلى اختبار هؤلاء الناس ليس غير. ولما وصل الرسول إليهم قالوا: ما الذي جاء بك؟ ليس في البلاد اليوم من شيء يستحق أن يرسل الأمير فيهِ رسولا، فلا يُعْقلُ أن يكون قد كتب شيئًا. إن بريد الأمير لأبيض هذه المرّة.

هذا ما كان منذ قرن. أما اليوم فقد صيرت الثقافة من كل قرية بلبنان ـ بَلْهَ[4] المدن ـ قريةً خاصة، وقامت الصحف وشركات الأخبار والمذاييع[5] بواجبها في إطلاع الناس على أحوال الأقطار، وتزويدهم بالأخبار يومًا يومًا بل ساعة ساعة. ولم يعد اللبنانيون أخبر لأمور لبنانهم منهم لأيّ قطرٍ في الشرق أو في الغرب. فهم يستبقون الحوادث ويقدرون مواقع الأزمات قبل حلولها.

فإذا رأينا القوم بلبنان يتطالون[6] لاستجلاء كل وارد ويستشرفون لاستكناه[7] كل وافد ويتغايرون في افتراض الفروض وتأويل الأحاديث والحوادث فلا عجب في ذلك ولا دهشة لما ركز في طباعهم من استشفاف الجديد وتعرّف ألوان البريد.


[1] من تراث عارف أبو شقرا. نشرت في مجلة الأمالي العدد 3 السنة الثالثة 23 رمضان 1359 الموافق 25/10/1940. ثم أعدت نشرها في كتاب (أعمال غير منشورة في كتاب لعارف أبو شقرا – تحقيق الطبعة الأولى – بيروت – 2011.

[2] آثَرْتُك إِيثارًا أَي فَضَّلْتُك.

[3] الضياع الخاصة: دير القمر، عماطور، نيحا، بثلون، عيندارة. 

[4]  اسم فعل، بمعنى: دعْ، أترك.

[5] جمع مذياع: راديو

[6] تطال وتطاول: أَن يقوم قائمًا ثم يَتَطاوَل في قيامه ثم يَرْفَع رأْسَه ويَمُدّ قوامَه للنظر إِلى الشيء.

[7] الكنه: جوهر الشيء وقدره ووجهه وحقيقته وغايته. والاستكناه: طلب الكنه.