الكلمةُ أخطرُ من الرَّصاص
التقاتلُ بين البشرِ قديمٌ قِدَمَ التّاريخِ، والأسبابُ متعددةٌ ومختلفةٌ. مِن تقاتلٍ فرديٍّ إلى تنازعٍ قَبليٍّ إلى حروبٍ بين الدُّولِ والأممِ مرورًا بالحروبِ الأهليّة بين أبناءِ الدّولة الواحدة. وإبّان الحروبِ يفقدُ الإنسانُ كثيرًا من إنسانيّتِه، سِيَّان كانت المعاركُ مستعرةً أم محتملةً. فينشغلُ تفكيرُه في كيف يتّغلّبُ على عدوِّه، ما يجعلُه يبحثُ باستمرارٍ عن الأسلحةِ المتطوّرةِ والخِطَطِ المُحْكَمةِ، وكُلِّ ما من شأنِه أنْ يُحقّقَ له غايتَه تلك. فراحَ يسعى أن يكونَ سلاحُهُ أقوى وأشدَّ فتكًا من سلاحِ عدوّهِ، وخِططُه أكثرَ فعاليةً.
ومن أهمّ تلك الخِطّطِ إضعافُ قُوّةَ العدوّ بأيِّ وسيلةٍ ممكنةٍ. وأفضلُ تلك الوسائل أن تتمكّن من زرعِ التّفرقةِ وتقطيعِ أوصال الروابطِ بين مُكوّنات ذلك العدوّ وصولًا إلى إشعالِ الفِتنِ بينها.
وعلى الرُّغمِ من هذه الأسلحة المتطورة والفتَّاكةِ التي نراها في أيّامنا هذه، تبقى الكلمةُ أشدَّ فتكًا من كلِّ تلك الأسلحة. فكم من كلمةٍ أشعلت تقاتلًا بين الأهل والأقارب والقبائل. ثم ألم تكنْ كلماتُ إبريل غلاسبي سببًا في حربٍ دمرت العراق يوم أوحت إلى صدَّام حسين بأنّه إن احتلّ الكويت فهذا شأن عربي؟؟؟
وكم من أدمغةٍ غسلتها كلماتٌ مسمومةٌ تحوّلَ أصحابُها قنابلَ موقوتةً قابلة للتفجير بأمرٍ من صاحب تلك الكلمات؟
وإذا كان فعلُ الرصاصة قتلَ إنسانٍ واحدٍ، وفعلُ القنبلة قتلَ عددٍ من البشر أو تدميرَ مدينةٍ بكاملها، فالكلمة قادرة على تدميرِ مجتمعٍ بأكمله. وإذا كان بإمكانِ كلماتٍ نُطِقَتْ في أذُنِ شخصٍ، وغاب صداها، أن تجعله ألعوبةً بيد قائلها، فكيف سيكون مفعولُ كلماتٍ دُسَّت في كتاب يبقى مئات السنين، بقالبٍ خبيثٍ من شأنه أن يشوِّه تعاليم دينٍ أو مذهبٍ، أو صِيغت على شكلِ أبحاثٍ تاريخيةٍ تنبشُ أحداثًا قديمةً بين أبناء الوطن الواحد، أو أبحاثٍ في الأصول والأعراق واللغات، لزرع التفرقة والكره والحقد في نفوسِهم، وتفتيتِ أواصر الشّعبِ الواحد؟
وإذا ما عدنا إلى «كتب التُراث» لوجدنا بينها الكثيرَ من تلك التي تحوي نصوصًا دُسَّتْ لتشويهِ تعاليم الإسلامِ، ولا ننسى ما يُعرفُ ب«الإسرائيليات».
وما زلتُ أذكرُ «حرب» الكتب التي نُشرت إبّان الأحداث اللبنانيَّة في الرُبع الأخير من القرن العشرين، ونُسبَت إلى مؤلفين بأسماء مستعارة، منها ما هو في التاريخ أو على شكل أبحاثٍ في المذاهب الدينية. وقد سُكبت بطريقة مزجت فيها المعلومات والأخبار الصحيحة مع أخرى خبيثة من شأنها زعزعةُ إيمان أتباعها، أو زرعُ التفرقة والكراهية والحقد في نفوسهم تُجاه أتباع مذاهب أخرى من الدين عينه ومن أبناء البلد الواحد. كما نُشرَ العديدُ من المقالات والأبحاث في السياق نفسه. كذلك نُشرت كتبٌ موضوعةٌ سابقًا على أثر أحداث القرن التاسع عشر، في جبل لبنان أيضًا، لم يكنْ يُعرف واضعوها، فنُسبت إلى كتّابٍ وأدباء وُلدوا، إمّا إبّان تلك الأحداث أو بعدها وماتوا قبل أحداث القرن العشرين، ومن دون إيِّ دليلٍ على أنّهم هم الذين وضعوها؛ وذلك لإضفاء صفةَ المصداقية على تلك الكتب والأبحاث التي أرادوا منها تنميةَ بذور الحقدِ والكراهيةِ والتفرقةِ في قلوب أبناء البلد الواحد.
ومما يؤسف له أنّ مثل تلك الكتب والأبحاث تبقى كغيرها متداولةً عشرات أو مئات السنين، كما قلنا سابقًا، وتصبح مع الأيام مراجع قد يَستنَدُ إليها كُتّابٌ وباحثون من دون التحقُّق من صحّتها، سواء بالكامل أم من بعض محتوياتها. وقد حدث أن دخلتُ في نقاشٍ مع شابٍ مولودٍ بعد أحداث القرن العشرين وإذا به يستشهد بأحد تلك الكتب، وعندما قلت له بأن ذاك الكتاب واحدٌ من الكتب المدسوسة لم يقتنعْ بل اتّهمني بالتحيّز وبأنّي أطعن بتلك الكتب وواضعيها لدعم رأيي فقط.
ولا ننسى أيضًا الكتبَ والأبحاثَ، التي تنشر حاليًّا ومنذ مدّةٍ من الزمن وبوسائل شتى، في أصولِ وأعراقِ ولغاتِ أبناء البلاد العربية الذين يعيشون سوية منذ أربعة عشر قرنًا، بغية تفرقتهم شعوبًا وأعراقًا بعد تفرقتهم طائفيًّا ثم مذهبيًّا.
كما أنّ لأجهزة الإعلام، بجميع أشكالها، دورًا عظيمًا في تثقيف وتوعية البشر وتوجيههم نحو الخير أو الشرّ، أو في تسميم أفكارهم وزرع التفرقة والحقد في نفوسهم. أوليس بإمكانهم إبراز أخبارٍ وإخفاء أخرى لغايات في النفوس، أو صياغتها أو التعليق عليها بعباراتٍ تخدم مُرامَهم؟ وهذا الصَّحَفيُّ العريق، جهاد الزين، يصف مهنة الصحافة ب«السّمٌّ»، ويعطي كتابَه عنوانًا فيه الكثيرُ من الدلالة على دورها، ألا وهو: «المهنة الآثمة».
واليوم مع ما أمَّنته التقنيَّات الحديثة في اتساع وتعدد وسائل النَّشر والاتصال، ومع ما يُسمى وسائل التواصل الاجتماعي، يُسِّرَ كثيرًا اختراعُ الكذبة المسمِّمةِ، ونشرُها بأسلوبٍ يجعل القارئ العاديَّ يقتنع بصحتها بسهولة.
وواضع الكتاب المسمومِ أو البحثِ المُغرضِ، أراه لا يختلف أبدًا عن النَّمَّام الذي يُوغِر الصّدور ويجعل الأصدقاء أعداء، بل هو إنسانٌ بلا ضميرٍ أو حسٍّ إنسانيٍّ أو وطنيٍّ، وأعظمُ خطرًا من العدوّ الذي يُشهرُ السّلاح للقتال. والقارئ العاديُّ قليلًا ما يُعمِلُ العقلَ والمنطقَ في ما يقرأ. وعلى الرّغم من أنَّ ما من دينٍ أو مذهبٍ يدعو إلى الشرِّ، فكثيرًا ما نرى أُناسًا يقتنعون بما وردَ، من تشويهٍ لتعاليمِ أيٍّ منها، دُسَّ في كتابٍ سواء وُضِع قَديمًا أم حديثًا بقلمِ كاتبٍ مُغرضٍ.
ويبقى أن نذكِّرَ بأنَّ الكلمةَ، كالرّصاصة، إنْ نُطِقَتْ فمن المستحيل استرجاعُها.
[1] نشرت في جريدة الرسالة – كندا لعدد 437 تاريخ 17/5/2019.