أحرجوهم فتخلوا عن دينهم
في كل مرّة كان يطرح فيها مشروع التنظيم القانوني للزواج المدني الاختياري في لبنان، كان معظم رجال الدين يقفون سدًا منيعًا ضدّه، وما زالوا. وفي كل مرّة كان رجال السياسة يذعنون ويتراجعون، حرصًا على أصوات العامة، بتبعيّتهم لرجال الدين، في الانتخابات وبالتالي خوفًا من خسارة مواقعهم التي تسنّموها عملا بالنظام اللبناني الطائفي، فتنام المشاريع في الأدراج نومة أهل الكهف. وهكذا أمِنَ أصحاب الغبطة والسماحة والسيادة والفضيلة على انتصار الدين أو المذهب الذي نصّب كلٌّ منهم نفسه وليًا على أبنائه. ولم يُلفِت انتباههم أهميةُ ذلك العدد المتزايد من عقود الزواج المدني التي تنظّم خارج الأراضي اللبنانية، ثم تسجل لدى السلطات اللبنانية وكأنها عقدت في لبنان. كما أنّهم أشاحوا بنظرهم عن أنّ هؤلاء المواطنين، اللبنانيين المقيمين في وطنهم، يخضعون لنصوص قانونية غير لبنانية، مما كان يوقِعهم في مشاكل إضافية، ويفرض على القضاة اللبنانيين أن يحكموا، وباسم الشعب اللبناني، استنادًا إلى قوانين غير لبنانية. كما لم يلتفتوا إلى تلك الشريحة الكبرى من شباب لبنان المثقف الذين يطالبون بقانون يريحهم من عناء وتكاليف السفر إلى الخارج لتحقيق حلمهم في الزواج بمن يحبّون.
إلى أن جاءتهم المفاجأة من شابين شجاعين، وعلى الرغم من أن كليهما على دين الإسلام، فقد تخليا، رسميًا، عن دينهما بطلب شطبه من سجلات النفوس، وعقدا زواجهما برعاية باحثٍ في القانون بارعٍ، ووثقاه لدى كاتبٍ بالعدل جريء. وبعد المراجعات والاستشارات القانونية تم تسجيل عقد زواجهما لدى دوائر النفوس وأصبحا قانونيًا زوجين شرعيين، لا سلطة لرجال الدين عليهما. أهمية هذا الزواج أنه أصبح سابقةً تفتح الباب أمام الشباب الراغبين في الزواج، مدنيًا، بمن يحبون كي يحذوا حذو ذينك الشابين، فالحب لا يعترف بالفوارق من أي نوعٍ كانت.
لم يدُر في خلد رجال الدين الكرام أن إرادة الشباب، إذا عزموا على أمرٍ ما، لا تثنيها العقبات فإن أعاقتهما مرة أو غير مرة فلن يعجزوا عن خلق الوسيلة التي تحقق لهم رغبتهم. أضف أنهم اعتقدوا أن كلامهم باسم الدين كافٍ لعدم خروج الشباب من تحت سلطانهم، كما غاب عنهم أنّنا نعيش في القرن الواحد والعشرين لا في العصور الوسطى. متناسين أيضًا، أنّ «كثرة الضغط تولّد الانفجار». أما المسلمون منهم فقد نسوا قوله تعالى: أن «لا إكراه في الدين»، ووصية النبي الكريم ﷺ لعامليه إلى اليمن معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، بقوله: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفِّرا.) ونسَوا أيضًا ما رواه أبو مسعود الأنصاري إذ قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله ﷺ فقال: «إنّي لأتأخرُ عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا». فما رأيت النبي ﷺ غضب في موعظة قطُّ أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: «يا أيها الناس إن منكم مُنفِّرِين فأيّكم أمَّ الناس فليوجز فإنّ من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة» (رواه مسلم 466).
وما زالوا ينفّرون ويعسِّرون إلى أن أحرجوا أولئك الشباب فأخرجوهم، حتى بدأوا يطلبون شطب المذهب عن صفحاتهم لدى دوائر النفوس، ويتخلّون بالتالي، رسميًا، عن دينهم.
ألا يحق لي هنا أن أسأل رجال الدين الكرام: هل كانت غايتكم، في عدم التيسير، تخلّي الشباب عن الدين؟ أهذا ما يرضيكم؟ ثم إذا كنتم اليوم ترفضون القبول بتنظيم الزواج المدني الاختياري، فهل تقبلون غدَا بالمساكنة من دون عقد، كما يجري حاليًا في أوروبا وأميركا، التي قد يواجهكم بها الشباب المحرج واليائس من آرائكم!!!؟؟؟
فيا سادتي الكرام، تذكّروا دومًا قول جبران: «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة». وأنّ هؤلاء الشباب هم أولادكم، وقديمًا قيل: «أعن ولدك على بِرِّك بثلاثة أشياء: لطف معاملته، وجميل تنبيهه إلى زلاته، وحسن تنبيهه إلى واجباته. واسلك في تربيته طريق الترغيب قبل الترهيب، والموعظة قبل التأنيب. إن القسوة في تربيته تحمله على التمرد. والدلال في تربيته يعلمه الانحلال، وفي أحضان كليهما تنمو الجريمة.»
وختامًا أهنئ نضال وخلود على زواجهما وأحييهما على شجاعتهما وإقدامهما على هذه الخطوة الجريئة، التي أصبحت الأولى في الطريق إلى الدولة المدنية. ولا أنسى، العرَّابين، الأستاذ طلال الحسيني والكاتب بالعدل الأستاذ جوزيف بشارة.
[1] نشرت في جريدة الحياة في 19/3/2013.