ودفَنْتُ حُلُمي

ودفَنْتُ حُلُمِي

بالأمس (الثلثاء 28/1/2020) أطلّ علينا دونالد ترامب، وإلى جانبه نتنياهو، بمشروعه المسمى «صفقة القرن»، الذي يعرض فيه رؤيته لحلّ قضية فلسطين. فكان أول تعليقٍ لمصر، أكبر دولة عربية، أن «دعت الفلسطيني والإسرائيلي إلى درس خطة السلام وفتح قنوات لمعاودة المفاوضات برعاية أميركية». وتلاه تعليق المملكة العربية السعودية، أغنى دولة عربية، أنها: «تشجع البدء بمفاوضات مباشرة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليّين تحت رعاية الولايات المتحدة».

فدَفَنْتُ حُلُمِي.

هذا الحلم الذي عاش في مخيلتي مذ بلغت الرُّشد، بأن تعاودَ قدمايّ وطْأ أرضٍ زُرتُها، قبل اغتصابها، وكنت طفلًا لم يبلغ التاسعة بعد. وبعدما حُرِمنا من دخولها ثانية، كنت كلّما نظرت إلى الجنوب من على شرفة منزلنا في جديدة مرجعيون، أقول في سرّي: هل سأتمكن يومًا من زيارة تلك الأرض قبل أن أغادر هذه الحياة الدنيا؟

وتمرُّ أيام الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة وأنا أسمع كلام حكّام العرب بالتهديد والوعيد لتحرير أرض فلسطين وطرد مغتصبيها. فخاضوا الحروب الخاسرة، وأضاعوا الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

وفي كلِّ مرّة كان حكام العرب الأشاوس يتهمون أميركا بأنّها تحيك المؤامرات ضدّهم وضدّ أنظمتهم.. وعوضًا عن التصدي لتلك «المؤامرات»، رأيناهم يعودون إلى الأميركيين، متسولين المعونة في إيجاد الحل، مقدمين التنازل تلو الآخر. فخسّرونا أيضًا كرامتنا.

فماذا تنتظرون من الأميركيّين، يا حكّامنا «الكرام»، ألم تطلعوا على تاريخ أو واقع من تستجدون العون منه؟ ألا تعرفون من أسس دولة الولايات المتحدة الأميركية وكيف؟ لقد بعث الأوروبيون إلى ما سموه يومها بالعالم الجديد، بمجموعات من المجرمين، أُطلقوا من السجون، لتثبيت استعمارهم لأرض ذلك العالم، ثم ألحقوا بهم مجموعاتٍ من المومسات تعزيزًا لغايتهم تلك. فقام أولئك المجرمون بقتل الملايين من أصحاب تلك الأرض؛ ليؤسّسوا دولة شعبٍ لقيطٍ لا أصالة ولا قيم له، مبدأه مصلحته، حتى ولو كان ثمنها التضحية بالآباء والأبناء. وألم تروا مدى تحكم الصهيونية، حاليًّا، بجميع مراكز القرار في تلك الدولة؟ ويوم كانوا بصدد وضع دستور هذه الدولة، طالب بنيامين فرانكلن، أحدُ عقلائهم وبنظرته البعيدة المدى، تضمينَ ذلك الدستور، نصًّا يمنع اليهود من دخولها لدرء خطر سيطرتهم على مقدرات بلاده.

أمّا ضياع فلسطين، فالتّهمة توجه دائمًا إلى بريطانيا بأنها المسؤول الوحيد، عن وعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني من العام 1917، وقبل استيلائها على فلسطين، ولكنّ الواقع التاريخي أثبت أن وودرو ويلسون، رئيس الولايات المتحدة الأميركية يومها، وافق عليه، مسبقًا في 13 تشرين الأول 1912. وقد انتخب ويلسون هذا، ذو الميول الصهيونية، بدعم من المنظمات والشخصيات الصهيونية في أميركا، واستمرت ولايته من العام 1912 لغاية 1920. وكان يومها الاعتقاد سائدًا لدى أغبيائنا، بأنّ أميركا هي حامية الحرياتِ وحقوقِ الإنسان. كما أن فوز أيِّ رئيسٍ للولايات المتحدة كان ولم يزل، يضمنه ذلك الدعم الصهيوني. وقد يشذُّ حال جون كينيدي عن هذا، ولذا تمَّ، حسب رأيي، اغتيالُه، الذي لم يُعرفْ حتى اليوم سببُه أو من وقف وراءه.

أما نحن، يا «حكامنا الكرام»، فلم تنفكّوا عن وصفنا بأننا «خير أمةٍ» أخرجت للناس، وأنّنا مميزون بصبرنا على المصائب، التي تسبّبونها أنتم. وتفاخرون بأنّ أرضنا هي مهبط الرسل والأنبياء. فيؤسفني القول بأن لو لم نكن بحاجة إلى الإصلاح لما بعث الله تعالى إلينا أولئك الأنبياء لهدايتنا وإصلاحنا. ثم ألم نعد إلى جاهليتنا وخلافاتنا وتقاتلنا فورَ وفاة خاتم النبيين، محمد ﷺ؟ وألم يكن السبّبُ في ذلك هو التهافت على كرسي الخلافة؟ وكم من الأرواح زُهقت في الحروب لأجلها؟

فكيف نكون، نحن وأنتم «خير أمةٍ» أخرجت للناس، وقد فرّقنا جهلنا وعبادتُكم العروشَ والمناصبَ، شعوبًا وشيعًا وطوائف تتقاتل وتتذابح ويشرّد بعضُنا بعضًا في سبيلها؟

وكيف نكون «خيرَ أمةٍ» أخرجت للناس، وقد استُغِلَّت فينا نصوصُ الدين بالاجتزاء أو التأويل، إمّا بأوامركم أو تحت أنظاركم، لغسل أدمغة العامّة ليتحولوا إلى أدواتٍ تديرونها بأيديكم أو بأيدي أزلامٍ لكم، لتحقيق غاياتٍ مُغرضة مشبوهة ولمصالح جهات خارجية؟

وكيف تكونوا من «خيرِ أمةٍ» أخرجت للناس، وقد وقفتم أنفسكم والبلادَ التي تحكمونها، لمصالح الدول الغريبة خوفًا على كراسيكم وعروشكم؟

وكيف تكونون من «خيرِ أمةٍ» أخرجت للناس، وقد عبدتُم فروج النساء، واستعبدتم الرجال الذين «ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»، حتى فجَّر الأغبياء أنفسهم طمعًا بالحور العين، عملا بفتاوى جهاد النكاح وغيره؟

وكيف تكونوا من «خيرِ أمةٍ» أخرجت للناس، وقد عبدتم جمْعَ الأموال بأيّ وسيلة كانت، وكنْزَها؟ وأفقرتم رَعَاياكم وخرّبتم بلادكم، بفسادكم وسرقة أموال شعوبكم، لتملأوا جيوبكم، ولتبنوا القصور الفخمة لكم ولأبنائكم، ولتشتروا السيارات واليخوت الفارهة، والطائرات الخاصة، ولتشبعوا شهواتكم الجنسية؟ أولم ترَوا أنّ الذين سبقوكم إلى الدار الآخرة، لم يأخذ معه أيٌّ منهم قرشًا واحدًا مما جمع؟

فخسئتم من حكامٍ خانوا الأمانات، وأضاعوا الكرامات، والأرض، ودمّروا الحجر، وقتلوا وهجَّروا البشر، في سبيل حُكمٍ زائلٍ.

لعنكم الله في الدنيا وفي الآخرة.


[1] كتبت هذا المقال في 29/1/2020. ونشر على صفحتي على الفيس بوك