ثورةٌ بلا سلاح
في الذّكرى الثالثة والستين لنكبة فلسطين، تقاطر الآلاف من إخواننا الفلسطينيين متجهين إلى نقاط التّماس مع الأرض السليب، في جنوب لبنان والجولان السوري والضفة الغربية وقطاع غزة، ليلقوا نظرات الحسرة على أرض بلادهم التي حُرِّمت عليهم، وليسيروا على الدروب التي سلكها آباؤهم وأجدادهم يوم هُجِّروا من ديارهم كُرهًا وغصبًا ومن دون أي وجه حق.
وعندما شاهدتُ تلك الجموع على شاشات التلفزة، عادت بي الذاكرة إلى مقولة لمؤسس الصين الحديثة، ماو تسي تونغ في خمسينيّات القرن الماضي إذ قال: «لو كنت في مكان العرب لحرَّرتُ فلسطين بمائة ألف أعزل». وقد كان يومها مجموع عدد سكان العالم العربي بنحو الثمانين مليونًا، أي أن العدد الذي طلبه ماو كان يعادل خمسة أفرادٍ من كل أربعة آلاف نسمة.
ثم ما لبثتُ أن تذكرتُ حدثين: أولهما لا بدّ أن كثيرين ممّن عاصروه وما زالوا على قيد الحياة، عنيت تلك الثورة السلمية التي أعلنها المهاتما غاندي والتي أدت إلى استقلال الهند عن بريطانيا العظمى في 15 آب (أغسطس) من العام 1947. فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هو «إبراز ظلم المحتل من جهة، وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية، تمهيدا للقضاء عليه كليًا أو على الأقل لحصره والحيلولة دون تفشيه».
أما الحدث الثاني، فلم تزل مشاهده شاخصةً أمام أعيننا، ألا وهو ثورة أطفال الحجارة التي انطلقت في قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة، في ثمانينيّات القرن الماضي. في حينه عندما رأيت على شاشات التلفزة أول مشاهدها تمنيت فورًا أن يبقى السلاح بعيدًا عن ساحتها. ولشدة ما تعاطف الرأي العام العالمي مع أولئك الأطفال، الذين كانوا يواجهون يوميًا دبابات وجنود الاحتلال بصدورهم العارية وبمطالبهم المحقة، وبخاصة أنّ عهد المحطات الفضائية كان قد ابتدأ، فقد أربكت هذه الثورة قادة الاحتلال إرباكًا عظيمًا جعلهم على وشك اتخاذ القرار بالانسحاب من الضفة والقطاع. ولكن عنصران مهمان حولا بداية ذلك النصر إلى هزيمة، وهما ظهور السلاح واتفاقية أوسلو. فمع بدء الفصائل الفلسطينية باستعمال السلاح، عرف الإسرائيليون أن يُبيّنوا للعالم، وهم أرباب الإعلام، بأنهم يواجهون حرب إبادة وهم الأقلية التي ستغرق في بحر العرب والمسلمين، إن لم يواجهوا السلاح بسلاح أقوى منه. فكانت المجازر التي لم يفرّقوا فيها بين كبير أو صغير، وكان منها قتل الطفل محمد الدرّة، العائد من المدرسة، بدمٍ باردٍ وأمام عدسات المصورين، غير آبهين في أن يراها العالم أجمع. وقد اتضح فيما بعد أن الأسلحة الأولى التي استعملها في ذلك الحين مقاومون من أبناء فلسطين، كانت مشتراة من الإسرائيليين أنفسهم، إن لم نقل بأنهم هم الذين زودوهم بها بطرقهم الخبيثة.
أما اتفاقية أوسلو، وما جرّت من ويلات، سواء على قضية فلسطين أم على أبنائها وقادتها، فحدّث عنها ولا حرج.
فيا إخواني أبناء فلسطين، دعوا جانبًا جميع الفصائل والمنظمات ولا تأتمروا بأيٍّ من قادة «فتح» أو «حماس» أو «الجهاد» أو غيرها… ودعوا ما أُطلقَ عليه خطأً تسمية العمليات الاستشهادية، وعودوا إلى ما قاله ماو تسي تونغ، وتمثلوا بالمهاتما غاندي، وانطلقوا بثورة سلمية حتى النصر، عمادها مئات الآلاف من شباب الأرض المحتلة، أيديهم ناصعة وصدورهم عارية ورؤوسهم مرفوعة، ورايتهم كلمةُ حق تنطلق من أفواهٍ حرة.
ولا تنتظروا من الأربعمائة مليون من أبناء يعرب سوى كلمات «التضامن الوجداني» التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع. واصبروا وصابروا، «فما لكم والله إلّا الصدق والصبر».
وإلى نصرٍ قريبٍ انشاء الله.
[1] نشر هذا المقال في العدد 17592 من جريدة الحياة – بيروت تاريخ 4/6/2011 الموافق 2 /7/1432.