مَنْ كانت الحِكمَةُ دَيْدَنَهُ، لا تَزِلُّ قدَمُه

مَنْ كانت الحِكمَةُ دَيْدَنَهُ، لا تَزِلُّ قدَمُه[1]

الحِكْمَةُ (بالكسر) في اللغة: العَدْلُ، والعِلْمُ، والحِلْمُ، والنُّبُوَّةُ، والقُرْآنُ، والإِنْجِيلُ. وأحْكَمَهُ: أتْقَنَه فاسْتَحْكَمَ، ومَنَعه عن الفَسادِ، (القاموس المحيط).

ويقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أَحْكَمَتْه التجارِبُ، والحكيم: المتقن للأُمور، (لسان العرب).

والحكيم أيضًا، في رأيي، من اجتنب الانفعال والتسرّع، واحتكم إلى ما يمليه العقل الراجح واعتمد الحِلم، في اتخاذ القرارات والمواقف، في كل ما قد يواجهه من صغائر الأمور وعظائمها.

وكما قال المتنبي:

«الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ *** هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني».

وكمثالٍ عن الرجل الحكيم، إليكم قصة من واقع الحياة، عرفت أشخاصها، (الأسماء مستعارة)، كما أعرف نفسي.

حكمة زوج

في أوائل سبعينيّات القرن العشرين، كان سامي، في أوائل العقد الرابع من سنوات العمر، حين جمعته الأقدار يومًا بدانية في منزل فادي، وزوجته فداء، اللذين كانا من أعزّ أصدقائه. ثم تكرر ذلك اللقاء مرات عدة وفي مناسبات وأماكن مختلفة. ولم يكن أيٌّ منهما يعلم، يومها، أنّ تلك اللقاءات كانت مدبرة من ذينك الصديقين، ما اكتشفاه بعد زمن.

دعاها يومًا إلى الغداء في أحد المطاعم. وتكررت بعد ذلك لقاءاتهما منفردين. وبعد نحو الشهرين من لقائهما الأول، قال لها: إنّني لم أزل بعد عازبًا، كما ترين، ولكنّني بصدد البحث عن الفتاة التي ستكون شريكة حياتي. فإن لم يكن لديك أيّ ارتباط آخر، فما رأيكِ في أن تكون لقاءاتنا التالية وكأننا في فترة خِطبةٍ غير معلنة، فيدرس كلٌّ منا أخلاق وصفات الآخر، إلى أن يأخذ قراره، فإما الفراق كصديقين أو العيش معًا تحت سقفٍ واحد؟

قالت: لا بأس، ولكن آمل ألّا تمتد هذه الفترة لأمدٍ طويل، ما قد يعرضني ل «القيل والقال»، بمفهوم مجتمعنا.

قال: أعدكِ بذلك.

ولم تمضِ ثلاثة أشهر على ذلك الوعد، حتى أصبحا زوجين يعيشان في مسكنهما الخاص. وكان زواجهما مما يُطلق عليه الكثيرون، اسم «زواج العقل».

وبعد مدة قالت له دانية: ما رأيك يا زوجي العزيز، في أن نستعين بخدمات امرأةٍ ممن يعملن في تنظيف المنازل، ولو مرةً في الأسبوع؟

فأجابها سامي: بالتأكيد، لا مانع لدي.

فقالت: إنّني أعرف واحدة منهنّ، تُدعى سعيدة، كانت والدتي تستعين بها من حين إلى آخر، وكذلك تفعل صديقتي ليلى، التي أكدت لي بأنّها أمينة، وأنها كثيرًا ما كانت تتركها وحيدة في المنزل، لقضاء بعض حاجاتها خارجه، وأنّها لم تفقد، يومًا، شيئًا من موجودات منزلها. كذلك أكدت لي والدتي بأنّها لم تلحظ عليها أيّ إشارة تدلّ على سوء الائتمان.

فقال سامي: لا بأس، بإمكانك أن ترسلي في طلبها متى شئتِ، فأنتِ ربةُ هذا المنزل.

وفي أحد الأيام، وبينما كانت سعيدة تقوم بعملها في المنزل، قالت لها دانية: سأذهب الآن لقضاء بعض الحاجات، وسأعود قبل أن يعود زوجي للغداء. وإن سمعت جرس الهاتف فأرجو أن تجيبي وتسألي عن اسم المتصل. وقد كانت شبكة الهاتف الآليّ، حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، وسيلة التواصل الوحيدة بين الناس في لبنان.

ولكن، بعدما أنهت مهامّها، وكانت قريبة من مركز عمل زوجها، وقد قارب وقت عودته إلى المنزل، عرّجت دانية على مكتبه ليعودا معًا.

وبعدما اجتازت قدماهما عتبة المنزل وألقيا التحية على سعيدة، سألتها دانية عما إذا كان أحدهم قد سأل عنها هاتفيًّا؛ فأجابتها قائلة: أجل لقد اتصل سميرٌ طالبًا محادثتكِ.

فقالت دانية: أمتأكدة أنتِ أنّه طلب محادثتي أنا أم زوجي؟

قالت سعيدة: بل طلب محادثتكِ أنتِ.

فنظرت دانية إلى زوجها، لتقول له بأن في الأمر خطأً ما أو سوء فهم؛ فإذا بها تراه غير مبالٍ، وكأنّ الأمر لا يعنيه.

وفي الأسبوع التالي، أتت سعيدة صباحًا كالمعتاد، ولم يكن سامي قد غادر المنزل بعد. ولمّا جهزت دانية للخروج معه، قالت لسعيدة: نحن مدعوان إلى الغداء لدى أحد أصدقائنا، وسيصحبني زوجي بسيارته إلى السوق، لأنتقي هديّة للمناسبة، وبعد ذلك سألتحق به في مكتبه لنذهب معًا، وسنعود إلى المنزل قبل أن تُنهي أنتِ عملك.

وفور عودتهما بادرت دانيةُ بسؤالها المعتاد عن المكالمات الهاتفية، فأجابتها سعيدة قائلة: أجل لقد اتصل اليوم أيضًا، سمير نفسه طالبًا التحدث إليكِ.

وقبل أن تنطق دانية ببنت شفة، فُوجئت بسامي وهو يمسك سعيدة من يدها ويجرّها إلى حيث جهاز الهاتف، ويرفع السماعة ويضعها على أذنها ويسألها عما إن كانت تسمع أي صوتٍ. ثم ينحني قليلًا ويمسك بسلك الجهاز ويضعه أمام عينيها ويردف قائلًا: أترين؟ الجهاز مفصولٌ عن الشبكة، فمن أين جاءتكِ تلك المكالمة؟

عندئذٍ، ثارت ثائرة دانية وصرخت في وجهها قائلةً: ماذا دعاك إلى هذا الكذب؟ أتريدين أن تخربي بيتي؟ فلماذا فعلتِ ذلك؟ ومن دفعكِ إليه؟

ولما حاولت الاقتراب منها وقف سامي بوجهها وضمها بين ذراعيه وهدّأ روعها. عند ذلك جثت سعيدة على ركبتيها تطلب منهما المعذرة وتقسم بأنّها لم تكن تريد أذيّة السيدة دانية، وأنّ جلَّ ما في الأمر أنّها اختلقت هذه الكذبة كي لا تبقى وحيدة فتسئمها الوحدة.

فصاحت بها دانية قائلة: اذهبي إلى الجحيم لا أريد رؤيتك بعد اليوم. وطردتها شرَّ طردة. وبعدما رمت لها، أرضًا، أجرها وما يخصها من متاع، صفقت باب المنزل خلفها بقوة فكان لذلك صوتٌ كدويّ انفجار قنبلة. ثم ارتمت على صدر زوجها باكية والدموع تسيل من مقلتيها وهي تردد: شكرا لك يا إلهي وشكرا لك يا زوجي الحبيب. فضمّها سامي ويداه تمسحان دموعها ورأسها، إلى أن هدأت واستعادت رشدها. فسألته قائلة: بالله عليك، كيف ومتى فصلت الجهاز عن الشبكة، ولماذا؟

قال: لقد قمت بذلك على غفلة منكما صباحًا قبل مغادرتنا المنزل. أمّا لماذا؟ فقد خالجني إحساسٌ داخليٌّ، في الأسبوع الفائت، بأنها كانت تكذب، فرغبت في أن أبيّن كذبها لأستأصل بذور الشكّ من نفسكِ قبل نفسي. كما أنّ دعوتنا إلى الغداء في منزل صديقينا فادي وفداء، كانت بإيحاءٍ مني إليهما.

قالت: أقلتَ من نفسي أنا أيضًا؟

قال: أجل. فهناك احتمال، ولو ضئيلٌ جدًّا، أن تأوّلي يومًا، كلامًا أو فعلًا قد يصدُر عنّي، وعن غير قصدٍ، بأنّه ناتج عن شكٍّ يساورني في سلوكك.

قالت: وماذا عنك أنت؟

قال: أنا إنسانٌ، وكل إنسانٍ معرضٌ للخطأ، وما الكمال إلّا لله تعالى؛ فقد يصدر عنّي، في ساعة غضبٍ، كلامٌ ينمُّ عن ومضةِ شكٍّ في بعض سلوكك. هذا ومن عادتي، أنّي في كلِّ مرة أسمع فيها نبأ فيه بعض الشرّ، أسترجع دومًا، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[2].

عندئذٍ، ضمّته بشدة وقالت: الآن فهمت يا حبيبي، سبب تجاهلك كلام تلك المرأة اللعينة في الأسبوع الفائت، كما عرفتُ سبب ذلك الحدس الذي كان يُشعرني دومًا، إبّان فترة تعارفنا القصيرة، بأنّك ستكون أنت قدري في هذه الحياة. أدامك الله لي سندًا مدى العمر، بحلمك وعقلك الراجح.

أسامة كامل أبو شقرا

[1] نشرت في مجلة همس الحوار – لندن – العدد 24 – نيسان/ أبريل – 2024

[2] (الحجرات 6).