ماذا قدم لي وطني؟
جاءني يومًا صديقٌ قائلًا: لقد عقدنا العزمَ على الهجرة، أنا وعائلتي.
قلت: وهل حدّدتم وجهتكم؟
قال: بلاد الله واسعة، وسأختار منها ما أشعر فيه أنّني إنسانٌ حقوقه مصونة.
قلت: أبهذه البساطة تتخلى عن وطنك بأرزه وسنديانه وزيتونه… وذكريات طفولتك؟
قال: اسمعني جيدًا يا صديقي، حبُّ وطني سيبقى في قلبي ما دام فيَّ رمقٌ من الحياة. ولكن قُلْ لي ماذا قدم لي هذا الوطن؟
فدعنا من العواطفَ، ولنحكّمِ العقل. فهل تساءلت يومًا، ما معنى الوطن؟ الوطن يا صديقي ليس تلك البقعة من الأرض التي نقطنها فقط، مهما بلغت جمالًا، ففي الكون بقاعٌ كثيرة رائعة الجمال غير لبناننا؛ بل الأهمّ هو المجتمع الذي يعيش ويسكن عليها بكلِّ مكوناته، بقوانينه وأنظمته، بحكامه ومسؤوليه، بمؤسساته الحكومية والعسكرية والأمنية، بأحزابه وتجمعاته وبخاصّة تلك التي لها التأثير القوي في تحديد سياساته الداخلية والخارجية. وكما أن على كلِّ مواطنٍ واجباتٍ أهمّها تنشئة ورعاية عائلة صالحة تكون نواة مجتمعٍ صالحٍ، كذلك على الوطن، أن يؤمِّن عوامل وسبُل معيشة وسكن هذا المواطن.
وفي التنزيل العزيز: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا…} (الروم 21) و{ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ …} (التوبة 26). فما معنى هذا السكن والسكينة؟
السكينة تعني: الرحمة والطمأنينة والأمن والوقار. فماذا حقق لي وطني من معاني هذه السكينة؟
فهل الرحمة في الضرائب والرسوم المتعددة الأنواع والنسب؟ أم في الغرامات التي يتكبدها المواطن إذا تأخر أو حتى أخطأ في شكليات تأدية أيٍّ من هذه الضرائب والرسوم، وقد تبلغ قيمة هذه الغرامات أحيانًا ثلاثة أضعاف الضريبة أو خمسة أضعاف الرسم؟ أم من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يتقاضى المليارات من المكلفين ويمنُّ بالفتات على أولئك العمال الذين يدّعي أنه يضمن حقوقهم وطبابتهم؟
وأين هذه الرحمة في تلك النصوص القانونية ذات المعاني المطاطة، أو الفجوات التي تجعل المواطن عرضة لابتزاز الموظف المختص من ضعاف النفوس؟
وهل من الرحمة أن تفرض علينا كلفة تأمين حاجتنا من أهمِّ ضروريات العيش، عنيت المياه والكهرباء، من مصدرين وأحيانا ثلاثة؟
أم أنّ الرحمة في هذا التلوث الذي يغطي سماءنا، وتفوق نسبته أضعاف ما هو مقبولٌ عالميًا، سواء في الهواء أم الماء، والذي يتسبب يومًا بعد يوم في تلك الأمراض القاتلة وفي تلف واحتراق المساحات الخضر؟ التي جعلت القاصي والداني يقول يومًا: «نيال من له مرقد عنزة في لبنان»؟
أما الطمأنينة، المعنى الثاني للسكينة، فهل شعرتَ يومًا يا صديقي بأنك مطمئنٌ على سلامتك أو سلامة أفراد عائلتك أو أقربائك أو أصدقائك مع هذا الوضع الأمني المتردي الذي نعيش في ظله منذ ما يزيد عن العقود الأربعة؟
ثم ألا يتملكك الخوف الدائم على الحاضر والمستقبل القريب والبعيد؟ فأين فرص العمل لأولادنا حينما ينتقلون من مقاعد الدراسة إلى سوق العمل؟ ألستَ على اطّلاع على أعداد شبابنا الذين يسافرون يوميًا للعمل خارج لبنان؟
وأين ذلك الضمان الصحي الشامل المواطنين كافة الذي نسمع الوعود المتكررة به منذ عقود؟ وأين أيضًا شقيقه ضمان الشيخوخة سواء الصحّي منه أم التقاعدي؟ وما زال السواد الأعظم من المتقاعدين يعيشون كما كانت تعيش، حتى أوائل القرن الماضي، «خيول الحكومة»، التي تنجو من «القتل الرحيم»، بعدما تُضعِف السنون أجسادَها؟
وأين الأمن، ثالث معاني السكينة، مع فوضى السلاح غير الشرعي المنتشر بهذه الكميات الهائلة والأنواع المتعددة والمتطورة، ما جعل قوة الدولة أضعف من أن تواجه دويلات أصحاب ذلك السلاح؟
وأخيرًا وليس آخرًا، أين الوقار، رابع تلك المعاني، في عيشتنا، فهل جرّبت يومًا يا صديقي أن تقف، كمواطنٍ عاديّ غير «مدعوم»، وقفة ذُلٍّ أمام أحد الموظفين المختصين، من ذوي النفوس الضعيفة، أو أمام بابه، وبيدك أوراق «معاملة» تحتاج توقيعه «الكريم»؟ أولئك الموظفين الذين «منحهم» تعقيدُ الأنظمة، سلطة إذلال مال المواطن أو نفسه، عندما يضطرُّ العملَ بالمثل القائل: «من احتاج ال… قال له: صباح الخير يا سيدي».
وقبل أن يختم صديقي شرح دواعي قراره بالهجرة أضاف: في أوائل الأحداث المؤسفة التي عمت لبناننا منذ العام 1975، سأل أحدهم المعلم كمال جنبلاط رأيه فيها، فأجاب: إذا انتهت في 15 سنة فالأمر جيد. فعاد السائل يستفسره عن مصير الشعب، فأجاب: «قسمٌ يموتُ وقسمٌ يهاجرُ وقسمٌ يُجنُّ.» وبما أنّي يا صديقي ما زلتُ على قيد الحياة ولا أرغب في الجنون فلذا قررتُ الهجرة.
عند ذلك وقفتُ، احترامًا له، وصافحته بحرارة وتمنيّت له التوفيق، وعيناي تغرورقان بالدمع ونفسي حزينة مما وصلت إليه حال لبنان.
[1] نشر هذا المقال في جريدة الحياة بتاريخ 10/5/2014.