هل الدّينُ أفيونُ الشعوبِ!!!؟؟؟
«الدّين أفيونُ الشعوبِ»، مقولةٌ أطلقها كارل ماركس في العام 1843 في مقدمةِ نقدِهِ «فلسفة الحقِّ عند هيغل». وعلى الرغم من قوله: «إنَّ الغاء الدّين، من حيثُ هو سعادةٌ وهميةٌ، هو ما يتطلَّبُه صنعُ سعادتِه الفعليّة»، فلا يجوزُ لي أنْ أعزوَ قولهُ ذاك إلى كونِهِ انطلاقًا من نيّةٍ أو غايةٍ في نفسهِ، لأن الله وحدَه هو الذي يعلمُ ما في الصّدور. ولذا أقولُ بأنَّني أظنُّ بأنّه كوّنَ رأيَه بأن للدّينِ قوةَ تعطيلِ العقولِ، كما للأفيون، استنادًا إلى ما كانَ يراه من تصرُّفاتِ وأعمالِ رجالِ الدّين المسيحيِّ في عصره وإلى انقيادِ العامّةِ لهم انقيادَ الأعمى. وهذا ما لا يُقبلُ من مُفكّرٍ استطاع أن يُؤسِّسَ لثورة غيّرت وجهَ التاريخ، بل قد يُعابُ عليه. فإذا أخطأ رجلُ أو عدةُ رجالِ دينٍ، سواء عن قصدٍ أم غيره، في فهم أو إفهام تعاليم الدّين فلا يجوز أن يُوسَمَ هذا الدّين بذاك الخطأ. فواجبُ المفكِّرِ يقضي أن يُعطيَ رأيَهُ في ذلك الدّين بعد العودةِ إلى تعاليمِه كما نصت عليها كتُبُه الأساسيِّة، لا استنادًا إلى تصرُّفات بعضِ رجاله مهما سمَتْ مكانتُهم أو درجاتُ علمِهم، فالإنسانُ معرضٌ دومًا للخطأ مهما حرِص. ولو فعل ماركس ذلك لغيّر مقولته عن الدّين إلى رجالِ الدّين.
ويُمكنني أن أتخيّل بعضًا من تلك الحالات التي كان يراها ماركس في أيّامِه، مما نراه نحنُ في أيامنا هذه من أعمالِ وأقوالِ وتصرُّفاتِ أناسٍ يدَّعون بأنّهم «رجالُ دينٍ أو علماء أو أئمة… مسلمون»، إمّا لغاياتٍ شخصيّةٍ أو مأجورين لخِدمةِ أعداءِ الإسلام والمسلمين، وكذلك من مسيرةِ مَن يتبعُهم من عامَّةِ المسلمين.
لقد فهِمَ العامّةُ الدّين بعواطفهم لا بعقولهم فاعتقدَ الكثيرُون منهم أنّ الدّين مظاهرُ عباداتٍ وطقوسٍ، في الصّلاة والصّيام، عليهم تأديتُها في أشكالٍ وأوقاتٍ محدَّدة، لا يجوز تعديلُ أيٍّ منها، حتى لو تسبّبُوا في تعطيلِ عجلةَ الإنتاجِ في المصانعِ والمعاملِ وغيرِها. إذ لم يفهموا قولَه تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185). فكان أن تمسَّكوا بالشَّكليّات وتخلَّوا عن الجوهر. وأخذوا في الإكثار من القيام بالصّلاة والصّيام، فزادوا في تعطيل عجلة الإنتاج. ولو عادَ أحدُنا إلى كتبِ التُّراث لوجدَ المئاتِ من الكُتبِ التي تبحث في شكلياتِ الوضوءِ والصّلاةِ والصِّيامِ وما يتفرّعُ عنها.
كما أن بعضَهم اعتقدَ بأنّ الدّين هو في عاداتٍ وتقاليدَ في الملبسِ والمظهرِ ورثَها النبيُّ ﷺ وأصحابُهُ عمّن عاشوا قبلهم، مما فرضتْه عواملُ الجوِّ والجُغرافيا. فهل أحصى أحدٌ كُلفةَ الصِّراعِ الذي يخوضُه المتزمّتون، منذ عقودٍ، لأجلِ ما أسموه واجبَ ارتداء المرأة المسلمة غطاء الشّعر الذي سمَّوهُ خطأً، لغويًا، «حجابًا»، زاعمين أنَّها إنْ لم ترتدِه فقد كفرتْ، أو ارتدَّتْ أو فسَقتْ؟
كذلك الإيمانُ المُفرِط لكثير من المسلمين بالقضاءِ والقدَرِ وبالتّوكلِ على الله، عزَّ وجلَّ، سواء في البحث عن الرِّزق أم في غيره، وبالاعتقادِ الكلّيّ بأن كلّ شيءٍ مقسومٌ ولا يحصلُ الإنسانُ على غيره مهما سعى، ضاربين بعرض الحائط قولَ النبيِّ ﷺ: «أعقلْها وتوكّلْ.» وقولَه تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص 77).
وكم رأينا، منذ بضعةِ عقودٍ، ولا نزالُ، من الشّباب «المؤمنين» يتبعون «رجلَ، أو رجالَ، دينٍ» تبعيةً كاملةً عمياء، حتّى باتوا مسيّرين لا رأي لهم، يسير واحدُهم كما يأمرُه «شيخُه» في أمور الدّين والدنيا، على حدٍّ سواء. وممّا يُؤسف له أنَّ كثيرًا من «رجال الدّين» أولئك، هم من المغرضين الذين يستغلُّون صفاءَ نفوس «المؤمنين» وطيبتَها في سبيلِ تحقيقِ غاياتِهم، وكم أقنعوا من أولئك «المؤمنين»، بأنّ تفجيرَهم أنفسِهم جهادٌ في سبيل الله، وبأنه، عزّ وجلّ، سيكافِئُهم بالحُورِ العِين فورَ وصولِهم إلى «الجنة».
وكما حاربَ رجالُ الإكليروس، في العصورِ الوسطى، العلمَ والعلماءَ واكتشافاتِهم ولم يكتفوا بتكفيرهم، بل عذّبوهم وقتلوهم وأحرقوهم وأتلفوا كتبهم، ها هم «المتأسلمون» اليوم، يُكفّرون ويذبحون من ليس على دينهم أو رأيهم أو مذهبهم.
وكم تسبّب هذا كلُّه في أذية الإسلام والمسلمين، إنْ في نظرة الكثيرين لهم، في المجتمعات الأخرى، أم في تعامُلهم معهم، حتى وصفوهم بالمتخلفين والجهلة؟ ومما زاد في أذيتهم أفعالُ مُدّعِي «الجهادِ في سبيل الله» بالقتل والذبح والرجم، وكلُّه «باسم الله والدفاعِ عنه وعن دينه»، فأصبح المسلمُ في نظرِ الكثيرين، إرهابيًّا مُجرمًا متخلِّفًا لا يصلح أن يشاركَهم مُدنهم.
وهذا ما يجعلُني أظنُّ أن كارل ماركس قد هالهُ التعطيلُ لدورِ العقلِ الذي كان يراهُ في الكثير من المؤمنين المسيحيّين، تمامًا كما يعطِّلُ الأفيونُ عقولَ مُدمنيه، فاتّهم الدّين بذلك عوضًا عن اتهام الإكليروس.
وعليه أقولُ بأن السّبب في ما تُتّهم به الأديانُ حاليًّا، السماويةُ أو غيرُها، يعودُ إلى إخطاء الكثيرِين من رجالِ الدّين المُعاصرين، من أعلى درجاتِهم حتى أدناها، وممّا وصلَ إلينا من بعضِ الأئمةِ والفُقهاءِ والمحَدّثين. بالإضافة إلى بعضِ المؤرّخين الذين نقلوا أقوال أولئك، من دون تمحيصٍ أو تحقُّقٍ من صحتها. فقد جاءت الأديانُ كُلُّها لتنظيم علاقةَ العابدِ بالمعبودِ وعلاقةَ البشرِ فيما بينهم. ولا أظنُّ أن أيًّا منها أو من مذاهبِها، يأمُرُ بالشّرِّ أو ينهى عن الخير، أو لا يميِّزُ بين الصّالحِ والطّالحِ من الأعمالِ.
فالسؤال الذي علينا أن نبحثَ له عن جوابٍ هو:
من يقف وراء محاربةِ الأديانِ، ولماذا هذه الحروب التي شُنَّتْ على الدّينِ المسيحيِّ سابقًا، وتُشنُّ على الإسلام والمسلمين حاليًّا ومنذ قرنٍ من الزمن أو يزيد؟
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 429 تاريخ 11/1/2019.