لا تصدقوا أمي
يروى أنّ جنديًّا قُتل في إحدى المعارك الحربية، وعندما هدأت حدة القتال قام رفاقُه بنقل جثته إلى المستشفى الميداني. وبينما كانوا يُهيّئُونها لتسليمها فيما بعد إلى ذويه، عثروا في جيبه على رسالة يقول فيها:
أكتب هذه الرسالة ولا أدري من سيقرأها. أنا اليوم جنديٌّ في جيشٍ معرّضٍ في كل لحظة للدخول في معركة حربية قد أُقتلُ فيها. فإذا حدثَ هذا وسمعتم أمّي تقول من على أحد أجهزة الإعلام: «لقد نذر ابني نفسه للاستشهاد في سبيل الوطن ولحماية ترابه»، فلا تصدِّقوها لأنّي أُحبُّ الحياة وأكره الموت سِيَّان عندي ما كان سببه. وإذا قالت لكم بأنّها سعيدةٌ في أن تراني أُزَفَّ شهيد الوطن، فلا تصدقوها لأنّها كانت تحلم أن تراني أتسلمُ يدَ عروسٍ تلدُ لها أحفادًا تستعيدُ فيهم براءةَ طفولتي. أجل لا تصدِّقوها ولا تصدقوا أختي أو أبي أو أخي إن قال أحدُهم كلامًا مماثلًا، فقد تكونُ تلك المذيعةُ الجميلةُ المغناجُ قد أقنعتهم بترداد مثل تلك الكلمات الجوفاء، لتهوّن عليهم حزنَهم بفقدي. صدِّقوا فقط دمعةَ وحسرةَ أمِّي وانكسارَ أبي في وحدتيهما.
وذاك الذي سينشرُ صورتي على صفحاتِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، مدّعيًا عُمقَ صداقتنا ووفاءَه وإخلاصَه لي، بكلماتٍ منمّقةٍ انتقاها من أعذب ما كتبه أشعرُ شعراء العرب، فلا تصدِّقوه لأنّه منافقٌ، إذ بالأمس القريب قصدتُه سائلًا أن يُقرضني بعض المال لأشتريَ دواءً لوالدتي، فأعادني خائبًا، زاعمًا أنَّه يعاني من ضيقِ ذات اليد، وأنا أعرفُ جيدًا أنَّها حجةٌ واهيةٌ.
وقولوا لفخامة رئيسِ البلاد: إنّي لست بحاجة إلى وسامٍ يُوضع على نعشي ميتًا، بل كنت بحاجة إلى أن ألمسَ رعايته أبًا وأنا على قيد الحياة.
وقولوا له ولأصحاب الدولة والمعالي والسعادة و… بأنّي لم أكنْ بحاجةٍ إلى بضعِ كلماتٍ معسولاتٍ يأبّنونني بها، بقدر ما كنتُ بحاجة إلى بضعِ دريهماتٍ يوفرونها لي ولأمثالي من تلك الأموال التي سرقوها ونهبوها من خيرات بلادي، وتركوني فقيرًا أكافح شظف العيش وقساوته، بينما يعيشون هم وعائلاتهم في القصور والشّقق الفخمة الفسيحة المُحاطة بجميع وسائل وأساليب الحماية، فلو عدلوا لأمنوا الخوف ولما احتاجوا إلى ما أو من يحميهم. وهم أيضًا يتنعمون بالمراكز ومنافِعِها ويتنقلون بأفخم وأحدث السيارات تحميهم المواكب والقوافل من الحرَّاس، الذين يكيلون الإهانات والشتائم والتهديد والوعيد لمن يتجرّأ على الاقتراب من أيٍّ منهم.
وقولوا لذاك الذي نصّبَ نفسه زعيمًا على أبناء طائفتي ومنطقة تجمعهم، مدعيًا حماية مصالحهم هم والطائفة، بألَّا يُكلِّف نفسه بزيارةِ أهلي لتقديمِ واجبِ العزاء بكلام المنافقين، فيوم كانت أمّي بحاجةٍ إلى عمليةٍ جراحية تفوق كلفتُها قدراتنا أنا وأبي وإخوتي مجتمعين، قصدت داره بِضعَ مراتٍ، ممنيًا النفس في أن يمدّ لنا يد العون للحصول على موافقة وزارة الصحة على التكفُّل بنفقات تلك العملية، أبلغني أحد حراسه بأن لا وقت لديه لاستقبالي، وأنّ علينا أن نتدبّر أمرنا بأنفسنا.
فلماذا إذًا أضحي بنفسي في سبيل وطنٍ لم يقدِّم لي ولأمثالي، مسؤولوه أيًّا من مقوّماتِ العيش الكريم؟ وجُلُّ ما أذكره من جميلِ هذا الوطن تلك القرية التي ولدتُ فيها ولعبتُ بين حاراتِها وعلى أزقتها، وكتبت اسمي بالفحم أو بالطبشور على جدرانها، مع أترابٍ كانت تربطني بهم براءةٌ ضاعت مع الأيام.
لم أحلمْ يومًا أن أُدفنَ تحت تراب وطني، بل حلمت ولم أزلْ أن يكون لي قطعةٌ صغيرةٌ من ذاك التراب، أبني عليها بيتًا صغيرًا تشاركني العيشَ فيه فتاةٌ طالما حلمتُ بها، وأولادٌ أتمنى أن أُرزقَ بهم منها، ألاعبهم أطفالًا ويعينونني في شيخوختي.
لا نطلب، أنا وأترابي، من أولئك المسؤولين سوى أن نعيش على هذه الأرضِ آمنين غدرات الزمن، إذا مرض لنا أبٌ أو أمٌّ أو طفلٌ أن يلقى العلاج والدواء، لا أن يموتَ على أبواب المستشفيات، أو أن أمدَّ يدي أمام المسجد أو الكنيسة، سائلًا بعض مالٍ أَسدُّ به رمقًا أو أدفعُه بدلا لأتعاب طبيبٍ. وعندما يبلغُ الحلمَ ولدٌ لنا أن يجد فرصة العمل الشريف في وطنه، لا أن يُضطرَّ إلى هجري بحثًا عن لقمة العيش.
وجُلُّ ما نطلب هو أبسط ما يحتاج إليه أحدُنا كي يعيش إنسانًا محفوظَ الكرامة، سقفًا وأربعةَ جدرانٍ تقينا قرَّ الشتاء وحرَّ الصيف، وماءً نقيًّا نشربه ونغتسل به، وهواءً نظيفًا نتنشّقه، وتيارًا كهربائيًّا ينيرُ عتمة الليالي، ومدرسةً يتعلم فيها أبناؤنا، من دون أقساطٍ مُرهِقةٍ تفرضُ علينا أن نحرمَهم ونحرِمَ أنفسنا كثيرًا من المأكلِ والملبسِ كي نسدِّد قيمَها، ووسائلَ عامَّة تنقلنا من وإلى مراكز أعمالنا بكلفةٍ تتناسبُ مع مداخيلنا، في ظلِّ نظامٍ وقوانين عادلةٍ تساوي بيننا جميعًا وتُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
صدقوني حينما قرّرتُ الانضمام إلى جيشِ بلادي لم افكِّرْ في أيٍّ من تلك الشعارات الفارغة، بل كانت غايتي الوحيدة ذلك الراتب الذي حسبت أنه سيقيني العوز.
رحم الله الإمام عليًّا إذ قال: «الفقرُ في الوطنِ غُربةٌ».
[1] نشر هذا المقال في مجلة المستقبل الكندي عدد تموز – آب 2019.