أين كفر المسيحيّون؟

أين كفر المسيحيّون؟

نشر يومًا، أحد أصدقائي على صفحته في الفيس بوك شريطًا مصورًا لجُزء من حديثٍ أجراه الإعلامي طوني خليفة مع شخصٍ، لم يرد اسمه في الحوار، كما أن صديقي لم يرفق النشر بأي تعليق. وبعدما استمعت إلى هذا الحوار أدركت أن سمو أخلاق صديقي، المسيحيّ الديانة، منعه من التعليق، على الرغم مما ورد على لسان هذا المحاور، «العالم»، تجاه إخواني المسيحيين.

وعلى الرغم من أن الإعلامي مسيحيُّ الديانة، فلم يتوانَ محاوره عن تكرار نعته المسيحيين واليهود بالكفار، وأنّهم جميعًا لن يدخلوا الجنة، مستندًا إلى قوله تعالى {لَّقَدْ كَفَر ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}. ولثقته بنفسه ادّعى أنّه يتكلم باسم المسلمين جميعًا من دون استثناء، بمن فيهم علماء الأزهر. كذلك اتّهم المسيحيين، بمن فيهم بطريرك الإسكندرية، بأنهم يقولون: إن المسلمين جميعًا لن يدخلوا الجنة. وما زاده تعنتًا في كلامه هو قلّة اطلاع الإعلامي المحاور على القرآن الكريم. ولذا رأيت من واجبي أن أردَّ على هذا «العالم» ومن قال قوله، بما يلي:

 

أولًا: أنا واحد من مئات ملايين المسلمين الذين لم يفوضوا إليك الكلام باسمهم.

 

ثانيًا: كنتَ تحاور إعلاميًّا مسيحيًا وتعلم أن حديثك سيسمعه كثيرٌ من المسيحيين ونسيت أو تناسيت قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} (النحل 125)، وبالتالي هل كان كلامك، مع أخيك في الإنسانية، مطابقًا لما أمرنا به تعالى في هذه الآية؟ كما أنك خالفت أمره تعالى في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…} (العنكبوت 46).

 

ثالثًا: لقد كررتَ عدّة مرات قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَر ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}، ولم تفقه أنه تعالى قصد فئة معينة لا جميع المسيحيين لأنه لو أراد ذلك لقال: لقد كفر النصارى أجمعون. أم أنك تعتقد أنه يخاف عباده الذين خلقهم؟ ولعلمك أيها «العالم»، سأكتفي بأن أورد لك ما قاله الألوسي، عن التثليث، في تفسيره للآية (171) من سورة النساء:

«أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز ولا مختص بجهة ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم، وأنه واحد بالجوهرية، ثلاثة بالأقنومية، والأقانيم صفات للجوهر القديم، وهي الوجود والعلم والحياة، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة. ثم اختلفوا فذهب الملكانية[2] أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: أن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلهًا أزليًا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معًا، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى، والابن على عيسى عليه السلام.

ومن النسطورية من قال: أن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم، وزعموا أن الابن لم يزل متولدًا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت، فالمسيح إله تام وإنسان تام، وهما قديم وحادث، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث، وقالوا: إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت.

وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحمًا ودمًا فصار الإله هو المسيح، وقالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر «إنجيله»: إن الكلمة صارت جسدًا وحلت فينا، وقال: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة…»

وبالتالي يكون الملكانيّة (أصحاب ملكا، وهم ليسوا طائفة الملكيين)، والنسطوريون وبعض اليعاقبة، هم المقصودون بالآية التي ردّدتَها أنتَ مرارًا لا النصارى كافة. وهذه الفرق على ما أعتقد، لم يبقَ لها وجود.

ويقول أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام (ص 125): «فتح المسلمون البلاد وهي مملوءة بالنصارى في مصر وبلاد المغرب والأندلس والشام، وكانت النصرانية عند الفتح منقسمة إلى جملة طوائف، أشهرها في الشرق ثلاثة: اليعاقبة. وكانت منتشرة في مصر والنوبة والحبشة. والنساطرة: وكانت منتشرة في الموصل والعراق وفارس. والملكانية. وكانت منتشرة في بلاد المغرب وصقلية والأندلس والشام».

ويبدو أنك لم تقرأ قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ…} (المائدة 47) فهل ينزل الله في كتابٍ للكُفَّار؟

 

رابعًا: يقول تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون*َ}. (البقرة 62). فهل لك أنت الأمرُ بدخول أيّ إنسانٍ إلى الجنة أم هو لله تعالى؟

 

خامسًا: هل قرأتَ يومًا هذه الآية: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام 107)؟ فإن كنت لم تقرأها أو كنت قرأتها ولم تفهمها، فاعلم أيها «العالم» أنها موجهة إلى النبي محمد ﷺ الذي بلّغنا تعاليم الإسلام. ثم ألم يقل تعالى لرسوله الكريم: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99)؟

 

سادسًا: وها هو تعالى يؤكد لك ولأمثالك بأنّه هو الوحيد صاحب الحق في محاسبة الناس أجمعين إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*} (الحج 17)

 

سابعًا: أرجو أن تقرأ هذه الآيات (وشبيهاتُها كثيرات):

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (الأنعام 117)

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256)

{وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} (يونس 40)

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص 56)

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القلم 68)

{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان 23).

 

ثامنًا: يوم فتح المسلمون بلادنا هذه كان سكانها على الديانة المسيحية، ولم يقم أيٌّ من القادة المسلمين على إكراه أيٍّ منهم على التحول إلى الإسلام. ومنذ أربعة عشر قرنًا ونحن نعيش وإياهم بسلامٍ ووئام. ولعلمك أيضًا أيها «العالم» لقد بقيت الغالبية العظمى من سكان مصر على المسيحية ثمانمائة سنة بعد دخول المسلمين إليها.

 

وختامًا، أقول لك: الإسلام الصحيح هو ما جاء به القرآن الكريم لا ما قاله ابن تيمية وابن حزم وغيرهما. وكفاكم استهتارًا بهذا الدين.

أمّا إن كان يزعجك وجود المسيحيين بيننا فما لك سوى الرحيل إلى أيِّ بلد يخلو منهم، فهم أصحاب هذه البلاد الأصليين وأنت وأمثالك طارئون عليها.

 

[1] نشر هذا المقال على الفيس بوك في 8/3/2015. وفي جريدة الرسالة الكندية العدد 406 تاريخ 15/12/2017.

[2] وهم ليسوا الروم الملكيّين.