«إشرب نقطة»[1]
في أحد الأيّام الأُوَل من صيفِ عامٍ من أربعينيّات القرن الماضي، غدا فؤادٌ باكرًا كعادته إلى حقلته[2] في منبسطٍ دون القرية. إذ هناك الكثير من قرى جبال لبنان بُنيت على أعالي سفوحها، يفصلها عن الأنهار الجارية في الوديان، أراضٍ يسوونها جِلالًا[3] تُغرس أشجارًا مثمرة، وخلال هذه الأشجار يزرعون سنويًّا خضارًا وبقولا، وتُروى من أمواه ينابيع تتفجَّر من مجارٍ في جوف الجبال، تتغذى من الأمطار والثلوج.
بعد مسيرة نحو نصف السّاعة، نزولا على شِعابٍ[4] متعرجة بين البساتين، وصل فؤادٌ إلى حقلته وراحَ يتفقَّد أغراسها ونباتاتِها. لم يشعرْ بمرور السّاعات إلّا عندما أحسَّ بالعطش وبارتفاع درجة الحرارة، فنظر إلى الأعلى وإذا بالشمس قد قاربت بلوغ وسط السّماء. وتذكّر بأنّه لم يُحضر معه من المنزل زادًا أو ماءً لأنّه لم يكن يتوقّع أن يستغرق إنجازُ ما جاء من أجله، أكثر من ساعة من الزمن بينما لم يزلْ بعدُ بحاجة إلى وقت إضافيٍّ لذلك.
فترك حقلته قاصدًا ينبوعًا ليس ببعيدٍ عنها. وقد اشتهرت قريتُه بكثرة عيون الماء والينابيع فيها. وفي الطريق مرَّ بجانب حقلة قريبه حافظ، وبعد أن حيَّاه وردّ حافظٌ التّحيّة سأله هذا الأخير عن وجهته. وهذه عادةٌ من عادات الكثير من أبناءِ الجبل المتوارثة عن الآباء والأجداد. وهي ليست من قبيل التدخّل الفضولي كما يعتقدُ بعضُهم، بل تشجيعًا للمسؤول لطلب المرافقة أو المساعدة إذا كان بحاجةٍ إلى أيّ منهما.
فأجابه فؤاد: إنّي ذاهبٌ إلى النّبع «لأشرب نقطة ماء».
ثم أكمل طريقه إلى أن بلغَ مقصدَه. ولمّا همَّ إلى الشُرب تذكّر أنّه قال لحافظٍ بأنّ غايته «شربُ نقطة ماء»، فإذا شرب أكثر فسيكون عندئذٍ قد كذب وهو لا يكذب، ولذا قفل عائدًا إلى حقلته. ولكنّ شعوره بالعطش قد ازداد مع ازدياد حرارة الشّمس. فقرر الذّهاب ثانية إلى النّبع.
وفي الطّريق كان حافظٌ لم يزلْ يعمل حيث صادفه في المرة الأولى، وإذا به يبادره سائلا: خير إن شاء الله إلى أين العزمُ الآن؟
فأجابه فؤاد: «رايح إشرب تإشبع»[5].
[1] نشرت في مجلة المستقبل الكندي – مونتريال عدد 15 نيسان 2021 السنة الخامسة.
[2] الحقلة، قُراحٌ طيبٌ يزرع فيه. (محيط المحيط للبستاني).
[3] الجلّ القطعة من الأرض ذات جدارٍ وحدٍّ معلوم. (محيط المحيط للبستاني).
[4] والشِعْبُ بالكسر: الطريق في الجبل، والجمع الشِعابُ.
[5] إني ذاهبٌ إلى النبع لأشرب حتّى أرتوي.