م
من يُحبُّ الشيخ فليتبعه
أخبرني أخي زيدٌ، أنّه سأل يومًا المرحومَ والدنا قائلًا: كلَّما صادفني أحدُ أبناء بلدتنا، عمّاطور، خارجًا من المنزل، أو التقاني في الطريق، أراه يسألني دومًا عن وجهة سيري، فهل لكَ يا أبتِ أن توضحَ لي سبب هذه العادة؟
فأجابه والدي، بهدوئه المعهود، قائلًا: كان أحدُ أجدادنا، الشيخُ ناصيف، شيخًا للعقلِ[1] في زمانه[2]، وكان ذا شخصية فذّة، جمع إلى جانب الورع والوقار، دماثة الخُلق ومحبةَ الناس وعمل الخير ومساعدةَ الضعيف، وغيرَها من الصّفات الحميدة ما فرض على الناس محبَّته واحترامه. وكان في قرية بعذران المجاورة، عائلة من إخواننا المسيحيّين[3]، كان أفرادُها يعيشون من نتاجِ معصرة يمتلكونها، وكانت مصدر رزقهم الوحيد. وفي أحد الأيّام جاء بعضُ أفرادها الشيخَ ناصيفَ يشكون من أنّ أحد أبناء قريتهم المتنفّذين[4] يمنعهم من تشغيل المعصرة، وأنَّ ما من أحدٍ، من أبناء القرية، يتجرّأ على الوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم خوفًا من ذلك المتنفّذ. وقد كان أبناءُ الشوف قاطبةً يومها، بمن فيهم جدّنا هذا، يعرفون مدى تسلّطه وسطوته.
ومن دون أن ينبس ببنت شفة، قام الشيخ ناصيف على الفور وامتطى دابَّته وأشار إلى أصحاب الشكوى بأن يسيروا معه. وما أن خرج من دارِه حتّى انبرى كلُّ من رآه، من أبناء عمّاطور، يسأله: إلى أين العزم يا شيخنا؟
فيجيب: من كان يحبُّ الشيخ فليتبعه.
فلم يتوانَ أيٌّ ممن سمع جوابه هذا، عن الالتحاق بموكبه من دون أن يسأل عن وجهة السّير أو عن المكان المقصود. وما أن وصلوا إلى آخر عمّاطور حتّى كان عدد من رافقوه قد بلغ العشرات، شيبًا وشبابًا.
وعندما وصل الموكب إلى المعصرة قعد الشّيخ ناصيف على حجرٍ مقابلٍ لها وأمر أصحابها بتشغيلِها. ولمّا علا صوت آلاتها ووصل إلى مسامع ذلك المتنفّذ، أمر أحد أتباعه بأن يذهب ويتحقَّق الأمر. ولمَّا عاد هذا الأخير من مهمّته وأعلم سيَّده بوجود الشيخ ناصيف قرب باب المعصرة، أمر ذلك المتنفذ أتباعَه بأن يخلدوا إلى السكينة ولا يأتوا بأيّ حركة، قائلًا: نحن ليس بمقدورنا أن نواجه الشيخ ناصيف أبو شقرا، وهذه البلاد له وليست لنا.
وأردف والدي قائلًا: لقد رويتُ لك يا بنيّ هذه الواقعة كي تدرك مغزى سؤال أبناء عمّاطور عن الوجهة التي تقصدها، فهو ليس من قبيل التدخُّلِ في شؤون الآخرين، وإن رأيتَها أنت كذلك، بل هي عادةٌ متوارثة منذ القِدم فرضتها طريقةُ عيشِ القبائل وتعاضدُ أبنائها ونصرةُ بعضهم بعضًا في السَّراء والضَّراء، متبعين أهمَّ مبادئ عيشهم القائل: «انصر أخاك ظالمًا كان أو مظلومًا».
وختم أخي قائلًا: رحمةُ الله عليك يا والدي، لقد حولني توضيحك هذا عن التأفُّف إلى الشّكر لكلِّ من سألني بعد ذلك من أبناء عائلتنا عن وجهتي. كما جعلني أتروَّى في إصدار الأحكام الفوريّة على تصرّفات وأقوال الآخرين قبل أن أتبيَّنَ أسبابَها وغاياتها.
فكم يحتاج لبنان اليوم إلى رجالٍ من أمثال الشيخ ناصيف، رحمة الله عليه، ليقفوا في وجوه سياسيّيه، الذين تسبَّبوا بتسلطهم وفسادهم وجشعهم وسرقاتهم، بانهيار اقتصاده ونظامَيه المالي والاجتماعي، وبما تعرّض ويتعرّض له، منذ ما يزيد عن العقود الأربعة من الزمن، من الأحداث الأمنيّة والكوارث المفتعلة، وبخاصّةٍ دمار ما يقارب نصف عاصمته، بيروت الحبيبة[5].
[1] أعلى رُتبة دينية في مذهب الموحدين الدروز.
[2] هو الشيخ ناصيف علي أبو شقرا، تُوفي في العام 1164 للهجرة الموافق 1750-1751م.
[3] وجاء في الصفحة 171 من «كتاب الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية»، أنّ صاحب المعصرة المذكورة، هو لبّس الحداد وهو من عين قني – الشوف.
[4] وفي الصفحة عينها من المرجع السابق، أنه الشيخ علي جنبلاط.
[5] بسبب الانفجار الهائل في مرفئها في الرابع من آب 2020.