خطر العامية على الفصحى
كنا نظنّ أنّ من أهمّ الأخطار على اللغة العربية الفصحى، تعثُّرَ بعضِ الكُتَّاب والقُرَّاء بأخطاء في كتاباتهم أو تلاواتهم، سواء في أصول وقواعد النحو والصرف أم في استعمال الكلمات في غير معانيها. أضف إلى هذا اعتمادَ اللهجة العاميّة عوضًا عن الفصحى في الكثير من الأفلام السينمائية والمسرحيات والبرامج الترفيهية. وفي تكرار قراءة الأجيال الصاعدة وسماعها تلك الأخطاء، ومن مصادر متعددة، ما يجعلها تترسخ في أذهانهم على أنها من اللغة الصحيحة. فاللغة اقتباسٌ، وإتقانُها ينتج من استمرار قراءة النصوص وسماعها، وبقدر ما تكون هذه النصوص صحيحة وسليمة تزداد سلامةُ وصحّةُ الملكةِ اللغوية لقارئها وسامعها.
ولكن مع «عصر» محطات التلفزة الفضائية والإذاعة التجارية، زاد الأمرَ خطورةً، احلالُ اللهجة العامية محل الفصحى في الغالبية العظمى من برامج هذه المحطات بما فيها، أحيانًا بعض النشرات الإخبارية. أضِفْ إلى هذا تلك الأغاني والأعمال التي يسمونها فنيّة، واعتماد اللهجة العامية في الإعلانات التجارية وغيرها…
قد يبرر بعضُ القيّمين على تلك المحطات، هذا الأمر بأن العامية أسهلُ على العامّة فهمًا من الفصحى، بالإضافة إلى رغبتهم في توسيع دائرة التواصل بين أبناء الأقطار العربية كافة بحيث يصبح بإمكان ابن الخليج أن يتحادث مع ابن الجزائر كلٌ بلهجته العامية فيفهمها الآخر. وهنا أسأل: ألا يمكن للفصحى أن تفيَ بهذا؟؟؟ وهل قصّرت يومًا عن التعبير عن فكرةٍ أو رأيٍ أو خبرٍ…؟؟؟
ولكنّني أرى الأمر بمنظار آخر. فمسؤولية جهاز الإعلام في التثقيف والتنشئة أعظم من مسؤولية المدرسة والجامعة، فإذا كان تلامذة هاتين يُعدون بالآلاف، فمتابعو ومشاهدو أجهزة الإعلام يُعدون بالملايين. وبالتالي على هذا الجهاز أن يقدّم البرامج التي ترفع المستوى الفكري والثقافي والصحي والأخلاقي والوطني، للمشاهد أو المستمع لا أن يهبط هو إلى درك هواهيهما الغريزي. فالطفل يهوى اللعب فهل يجوز أن تساير المدرسة هواه وتقصر برامجها على اللعب؟
فالأمر غير ما يدَّعُونه. إنّ العناصر البشرية الشابة، نساءً كانوا أم رجالا، الذين يتقنون اللغة العربية أصبحوا، للأسف، قلائل جدًا إن لم نقل نادرين، وهذا عائد لعدة أسباب أهمها مستوى التعليم الذي يتجه انحدارًا، منذ برهة[2] من الزمن، وفي غالبية الأقطار العربية. ونظرًا لهذا العدد الهائل من تلك المحطات والإذاعات، فقد أصبح مُكلفًا جدًا استخدام من يتقنون هذه اللغة، وهذا بالتالي سينعكس سلبًا على النتائج المالية لأعمالها، وهي التي في معظمها تجارية، تسعى إلى الربح. أضف إلى ذلك المبدأ المعتمد، غالبًا، في استخدام العنصر النسائي، القائل: «كوني جميلة واصمتي»، بصرف النظر عن سائر الكفاآت. فالمذيعة الجميلة المغناج… تجتذب الكثير من المشاهدين الرجال، ذوي النفوس الضعيفة… مهما بلغت تفاهة البرنامج، لأنه صِيغَ أصلا على قاعدة الحصول على أكبر كميّة من الإعلانات التجارية. فالأمر في معظمه إذًا ماديٌّ قبل كل شيء، ولا من يبالي بما قد تسبّبه تلك البرامج من إساءة سواء إلى الأخلاق أم الثقافة بجميع فروعها.
فما كنا نشكو منه سابقًا من تلك الأخطاء في اللغة، والتي كانت محصورة في كتابات بعض الكتاب، ضاعف انتشارَها محطاتُ الإذاعة والتلفزة الماديةُ الغاية، أضعافًا مضاعفة. فقواعد اللغة أصبحت في خبر كان. وإذا ما تفوّه أحدهم بكلام يعتقده فصيحًا، فهناك الكارثة، فلا ضير عنده إذا نصب الفاعل أو كسر المفعول به أو رفع المجرور، ولا تسأل عن حركات سائر الحروف.
أمّا عن مخارج الحروف فحدث ولا حرج. (أرجو أيها القارئ الكريم ألا تكون من الذين سيسألون ما المقصود بمخارج الحروف). فلن تفاجأ إذا سمعت بعض الحروف تُنطق من الأنف أم من قعر الحنجرة. كما بلغ تأثير اللهجة العامية أيضًا، حد ذوبان بعض الحروف في بعضها الآخر، فحرف الثاء تحول إلى السين أو التاء، والذال ضاعت في الزّاي، والظاء أصبحت زايًا مضخمة، والضاد (أحد أسماء اللغة العربية) اضمحلت في الظاء، أما القاف فحلّت محلّها الألف أو الكاف لدى بعضهم أو الجيم لدى الآخر، والجيم في مصر لم يعد لها وجود لأنها أمست چيمًا. حتى التاء والطاء اقترب تمازجهما كذلك السين والصاد…
أمّا استعمال الكلمات في غير معانيها فقد كان للعامية الباعُ الطويلُ فيه، ومن الصعب حصره في عدد معدود منها. ونادرون هم الذين يعودون إلى المعاجم للتأكد من أنهم يستعملون الكلمة في معناها الصحيح، بمن فيهم من مشاهير الكُتَّاب والأدباء والشعراء. وإذا ما عاد أحدنا إلى المعجم لوجد العجائب في ذلك. ولا ننسى أيضًا غزو الكلمات الأجنبية ألسنةَ أولئك المذيعين، ما جعل الكثير من المفردات العربية تنتقل إلى عالم النسيان، سواء من ذاكرة المذيعين أم الغالبية العظمى من أبناء الأقطار العربية أجمعين.
ولا ننسى أيضًا تلك الكتب والروايات الرخيصة، وخاصة المترجمة منها، ذات الموضوعات التي تجذب الناشئة، المكتوبة بلغة أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى. وأخيرًا، والخوف من أن يكون ليس آخرًا، بدعة كتابة العربية، على وسائل الاتصالات الحديثة والإنترنت، بالأحرف اللاتينية، حتى أنهم استعاضوا بالأرقام عن الأحرف العربية التي ليس لها شبيهٌ في اللاتينية.
لقد قيل: «إن اللغة القومية للإنسان هي الغذاء الروحي الذي ينمّي شخصية الفرد في نطاق الأمة، ويحفظُ الأمة حيّة في كيان الفرد». وعليه أضيف: إن المحافظة على أسس وقواعد اللغة ومعاني كلماتها، لا يمكن أن تكون سبب تحجرها أو انغلاقها، بل من شأنها أن تيسر لنا فهم تراثنا وتاريخنا بشكل سليم وواضح وسهل، يُمَكِّننا من بناء حاضرٍ ومستقبلٍ مرتكزين على قواعد صلبة ومتينة. أمّا إدخال أسماء وتعابير جديدة لمكتشفات حديثة ليس لها ما يعبر عنها في اللغة، فقد تكون العربية من أكثر اللغات قبولا به، إذ أن تاريخها حافل بذلك.
لغتنا تراثنا فلنحافظ عليها.
[1] نشر هذا المقال على صفحتي في Facebook وصفحة جمعية أصدقاء اللغة العربية – مونتريال. كما كان موضوعه محور حديثين شاركت فيهما على أثير إذاعة الشرق الأوسط في كندا في العامين 2016 و2017.
[2] البَرهة، بالفتح والضم، تعني المدة الطويلة عكس ما تعتقد الغالبية. أما المدة القصيرة فهي الهنيهة. وفي لسان العرب: البُرْهَة والبَرْهَة جميعًا: الحِينُ الطويل من الدهر، وقيل: الزمانُ.