رسالة إلى إخواني المسلمين في بلاد الاغتراب
إخواني المسلمين، الذين يعيشون في بلاد الغرب عامة، وفي كندا خاصة.
بعد أن هجرتم أوطانكم وانتقلتم إلى البلاد الغربية، أصبحتم على احتكاك مباشر مع أناس ينتمون إلى عرقيّات وقوميّات مختلفة ومتعدّدة، بينهم من يعتنق المسيحية أو اليهودية على مذاهبهما المختلفة، ومنهم من ابتعد عنهما ليصل إلى درجة الإلحاد. ومنهم أيضًا من يتبع البوذية أو غيرها من الأديان غير السماوية. وهذا ما يلقي على عاتق كلٍّ منكم مسؤوليّاتٍ جسامًا، لا تُجاه أنفسكم وأولادكم وأحفادكم فقط، بل أيضًا، تجاه إخوانكم المسلمين في جميع أصقاع الأرض. هذه المسؤوليّات قد تكون أكبر بكثير من أيّ مسؤوليّة يحملها أيٌّ من فقهاء المسلمين في البلاد الإسلامية.
أنتم اليوم سفراء المسلمين جميعًا، بُعثتم إلى بلادٍ تجهل الغالبيّة العظمى من أهلها، ما هو دين الإسلام وما هي تعاليمه. وللأسف فقد يكون كل ما يعرفونه هو ما تنقله لهم وسائل الإعلام عن تصرفاتٍ وأعمالٍ، قد تصل إلى حد الإجرام، يقوم بها بعضهم وينسبونها إلى الإسلام زورًا وبهتانًا، وهو براء منها، حتى أصبح الكثيرون منهم يعتقدون أن الإسلام مرادف للإرهاب والتطرّف والتحجّر والقتل والعدوان. ولا ننسى أن الإنسان عدوٌّ لما يجهل، أو أنّه يحكم على الكل من تصرف الجزء.
إخواني، إنّ المطلوب منكم، اليوم وفي كل يوم، أن تجعلوهم يرَوا جوهرَ دين الإسلام وسماحتَه ويسره لا قشوره. ابتعدوا عن التزمّت والمغالاة وعن كل ما ينفّر الناس منكم. وتمثّلوا بوصية الرسول الكريم لعامليه إلى اليمن، معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، بقوله لهما: «يسِّرا ولا تُعسِّرا، بشِّرا ولا تنفِّرا.»
لا أقول لكم، أو لأيّ منكم، أن تعقدوا ندوات تبشيريّة تدعونهم فيها إلى اعتناق الإسلام. ولكنّ المطلوب من كل فرد منكم، كبيرًا كان أم صغيرًا، أنثى أم ذكرًا، أن يجعل من نفسه داعية في أخلاقه وسلوكه وصدق تعامله مع الآخرين واحترامه عاداتهم وتقاليدهم وأنظمتهم وقوانينهم، لا في استغلالها.
أفهموهم أن دين الإسلام ليس في تغطية شعر المرأة المسلمة. أفهموهم أنّ هذه عادة يتوارثها المسلمون منذ قديم الزمن، تعود إلى ما قبل بعثة النبيّ محمد ﷺ. فجميعنا يعلم أنّ أشكال وألوان وأنواع الثياب التي ارتداها الإنسان منذ القدم كانت دومًا ترتبط بطبيعة وجوِّ الناحية من الأرض التي يعيش عليها. ولذا فإنّ العيش في الصحراء وتحت أشعّة الشمس الحارقة كان يفرض على سكان شبه الجزيرة العربية، منذ ما قبل ظهور الإسلام، أن يرتدوا ثيابًا تحميهم من حرارة وأضرار أشعة الشمس. فكان الرجال والنساء، على حد سواء، يرتدون الثوب الطويل الفضفاض، وغالبًا الأبيض أو ذا اللون الفاتح، والذي يغطي الجسد بكامله، وهو ما يسميه بعضهم اليوم، «الدشداشة»، بالإضافة إلى غطاء الرأس، بشكل لا يظهر من جسم الإنسان سوى الوجه واليدين، إلى المعصمين، والقدمين، إلى الكعبين، وكثيرًا ما كانوا يغطون الفم والأنف في اتقاء رمال العواصف في الصيف، أو البرد القارس في الشتاء. ولم يزل سكان المملكة العربية السعودية ودول الخليج يرتدون مثل هذا النوع من الثياب على أنها زيّهم التقليدي.
كما أن تغطية الرأس والجسد لم تكن تقتصر فقط على سكان تلك الصحراء بل كانت منتشرةً في جميع بلدان الشرق الأوسط، إن لم نقل في جميع أنحاء العالم. فلو زرنا مثلًا أيًا من المتاحف لرأينا أنّ الثياب التقليدية لمعظم شعوب العالم كانت تغطي كامل الجسد، ولكن، بالتأكيد، من دون الوجه واليدين. كما أننا إذا زرنا أيّ كنيسة لإخواننا المسيحيين فلن نجد فيها أيقونة واحدة تظهر فيها صورة السيدة مريم العذراء (ع) من دون غطاء الرأس، بل أكثر من ذلك فإننا نراها دومًا لا يظهر من جسمها سوى الوجه واليدين إلى المعصمين.
أما لماذا يتمسّك بعضهم بوجوب ارتداء المرأة المسلمة لما يُسمّى خطأً «حجابًا» والصواب أن نقول «خمارًا» أو «غطاء الشعر»؟ فأراه يعود لما فهموه من تفسيرهم للآية 59 من سورة الأحزاب التي تقول: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، والآية 30 من سورة النور {وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِہِنَّۖ}.
فلو عدنا إلى ما قاله المفسرون لوجدنا في تفسير ابن كثير للآية الأولى، مثلًا، قوله: «كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلظ الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.»
والجلباب ثوب أكبر من الخمار ومنهم من قال هو الرداء. وفي لسان العرب: «الـجِلْباب: القَمِيصُ. والـجِلْباب: ثوب أَوسَعُ من الـخِمار، دون الرِّداءِ، تُغَطِّي به الـمرأَةُ رأْسَها وصَدْرَها؛ وقـيل: هو ثوب واسع، دون الـمِلْـحَفةِ، تَلْبَسه الـمرأَةُ… والـمِلْـحفة عند العرب هي الـمُلاءة السِّمْط.» ومن نص هذه الآية نتحقّق أنّ الجلباب كان معروفًا قبل نزول هذه الآية، وبالتالي قبل الإسلام، لأنّه لو لم يكن معروفًا لما كان له اسم في اللغة العربية.
أمّا إذا عدنا إلى أسباب نزول هذه الآية، فيقول الواحدي: «أَخرج ابن سعد في الطبقات عن أَبي مالك قال: كان نساء النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرجنَ باللَّيل لحاجتهنَّ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهنَّ فيؤْذَيْنَ، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين فقالوا: إنَّما نفعله بالإِماء، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّها النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءَ المُؤْمِنينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}. ثمَّ أخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي.»
أما الآية الثانية، أي (30 من سورة النور)، فيقول فيها محمد علي الصابوني، في كتابه «صفوة التفاسير»: «أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلّا يبدو شيء من النحر والصدر»، وهي بالتالي مشابهة في المعنى للآية الأولى.
ولكنّني أسال: لماذا أغفلوا ذلك الجزء من الآية الأولى الذي يقول: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ …} والذي نفهم منه أنّ هذه الآية إنما نزلت لرفع الأذى عن المسلمات. وعليه فإذا كان في هذا، الذي يسمى اليوم «الحجاب الإسلامي»، أذىً أو حتى حرجٌ ولو لمسلمة واحدة فقط، فإنّي أرى أنّ خلعه ليس فقط مستحبًا بل واجبًا، فكيف إذا كان فيه أذىً للمسلمين كافةً؟ وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أحلّ لنا، عند الضرورة، أكل المحرّمات أفلا يسمح لنا أن نتخلى عن عادة موروثة قد تتسبّب لنا بأي ضرر؟ فلو عدنا إلى الآيات التي عددت لنا ما يحرّم علينا أكله لوجدنا أنها جميعها تبيح أكل هذه المحرمات عند الضرورة. وهذه واحدة منها: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة 173). ومن هنا كانت القاعدة الشرعية: «بأن الضرورات تبيح المحظورات». ثم كم آية من آيات القرآن الكريم تذكّرنا بأنّه تعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. ومنها: {… يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ…} (البقرة 185)، فلماذا نعسر نحن على أنفسنا؟
لا أقول لكم اكفروا بالله وبرسوله كي ترضُوا أهل الغرب. ولا أقول لكم أن تتخلوا عن واجباتكم الدينية. ولا أقول لأيّ من النساء، حتى غير المسلمات منهن، أن يرتدين الثياب غير المحتشمة. وأهل الغرب أيضًا لا يطلبون منكم أيًا من ذلك، بخاصة بما لديهم من الاحترام لحريّة المعتقد والقول والرأي والفكر واللبس… ولكن أرجوكم، يا إخوتي، ألا تُسيئوا إلى هذا الدين السمح بتصرفات وأفكار لا أساس لها في القرآن.
أرجوكم أن تتشبّهوا بأفعال نبيكم الكريم، لا بما كان يرتدي من لباس. أن تتشبهوا بأخلاقه لا بإطلاق اللحى. وفي القرآن الكريم آيات تدلكم على أخلاقه، أذكر منها: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ …} (آل عمران 159) و{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}. (القلم 4).
بيّنوا لأهل الغرب أنّ الإسلام بعيدٌ كل البعد عن القتل، عملًا بالآية الكريمة: {…وَلا تَقْتُلُوا ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلا بِٱلْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّـٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. (الأنعام 151)
بيّنوا لهم أنّ في القرآن آيات كثيرة تنهى عن العدوان، منها: {… وَلا تَعْتَدُواۚ إِنَّ ٱللَّهَ لا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}. (البقرة 190).
وأرجوكم يا أخوتي، لا تتسبّبوا بأذيّة المسلمين بتصرفات لا لزوم لها، وتذكّروا الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب 58).
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة: {… وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكةِۛ وَأَحْسِنُواۛ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}. (البقرة 195).
ولا تجعلوا إمامكم أيًا من أولئك الذين يأتون بتلك الأعمال المنسوبة زورًا إلى الإسلام، وليكن القرآن، وحده، إمامكم ودستوركم في الدين والدنيا. عودوا إليه فقط، فلا بد من أن تجدوا فيه ما يدلّكم على الطريق القويم. وتذكروا دومًا قوله تعالى: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (المؤمنون 62).
وتذكّروا أيضًا أنّ من تسبّب بأذيّة دين الله تعالى فقد تسبب بأذيته هو وبأذية رسوله ﷺ. ومن يفعل ذلك يكنْ نصيبه مما قاله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (الأحزاب 57).
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد وأنت خير شهيد.
[1] نشر هذا المقال في جريدة المستقبل في مونتريال – كندا العدد 728 تاريخ 4/10/2007.