هل بلغ الإنسان، في اللامعقول، قمة الحضارة؟
خلق اللهُ الكائنات الحيّة من تراب هذه الأرض، وميّز الإنسان عن سائرها، بنعمة العقل، كي يفرق بين الخير والشرّ، وبين الصواب والخطأ. وفي اللغة، كلُّ ما يقبله من الخير، يوصف بالمعقول. أما ما يرفضه، فهو غير معقول، أو لامعقول (اصطلاحًا). وإذا أنعمنا النظر في ما يجري حولنا، فسنرى أنّ الكثير من اللامعقول يقف حاجزًا معطّلا في وجه المعقول.
فالمعقول أن يرعى شؤونَ الأممِ والشعوبِ قانونٌ دُوليٌّ، ومن غير المعقول أن يخالفَه من شارك في وضعه. ومن المعقول أن يُشرف على تطبيق هذا القانون، منظمةُ الأمم المتحدة، ومن غير المعقول أن يُعطِّل عملها مزاجيةُ ومصلحة أحد أعضائها المؤسسين.
والمعقول أن يتمتع أبناء جميع الشعوب بالحقوق الإنسانية من دون تفرقة، ولكن من غير المعقول أن تكون هذه الحقوق، حكرًا للظالمين محرّمةً على المظلومين.
والمعقول أن نسمع أنّ الولايات المتحدة الأميركية، أقوى دول العالم، هي حامية الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته. ومن غير المعقول أن تدعي هي ذلك، بينما واقع حالها هو العكس، على حدِّ قول أحد رؤسائها السابقين: «أميركا ليست مثلي ومثلك، أميركا ليست إنسانًا، أميركا ليس لها ضمير ولا قلب، هي لا تشعر، ليس لها صديق. أميركا شيء، دولةٌ تُتخَذُ قراراتُها من قبلِ جهاتٍ متخصصة، تصنع القرار وتقول: يا رئيس وقِّعْ. وأنا بصفتي رئيس، أنا اسمي خادم أو موظف عند الشعب الأميركي. إذا جاءني قرارٌ مدروس من الجهات المختصّة، يقول إن هذا القرار هو لمصلحة الشعب الأميركي، واجبي أن أوقّع، بغض النظر عن شعوري. شعوري في المنزل. فلا تغشكم كلمات: صديقي والدولة الصديقة والدولة الحديثة…»[1]
والمعقول، بل من حقّه، أن يعيش كلُّ شعبٍ على أرضه التي ورثها عن آبائه وأجداده منذ آلاف السنين، وغير المعقول أن يأتيه أناسٌ تلملموا من أقطار المعمورة لاجئين، فيحتلوا أرضه ويقتلوا ويطردوا أبناءه، بقوة السلاح وبدعم الدول التي تدعي أنها متقدمة.
والمعقول، بل الواجب، أن يثور هذا الشعب على من ظلمَه وسلبَه أرضَه، ليسترد ولو جزءًا من حقوقه. ولكن من غير المعقول هو أن تقف الدول التي تدّعي حماية حقوق الإنسان والديمقراطية، وبكل قُواها، إلى جانب المغتصب الظالم، ضد المظلوم، بحجّة حقِّه، في الدفاع عن النفس، لتقوم بقتل الأطفال والنساء والمدنيين والطواقم الطبية والصحفيين، وبالمجازر وبالإبادة الجماعية، وبتدمير المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومخيمات اللاجئين، واصفين ثورته بالاعتداء الغادر، وبخرق القوانين الدُولية، على الرّغم من حرمانه من أن يكون له دولة ولو على شبرٍ واحدٍ من أرضه المغتصبة.
والمعقول أن تتقدم دولة جنوب إفريقيا بشكوى، بوجه إسرائيل، في جرائمها ضد الفلسطينيين، أمام محكمة العدل الدولية، واللامعقول أن «يُصدر» وزير خارجية الولايات المتحدة حكمه مسبقًا بأن هذه الشكوى لا أساس لها، وقبل أن تبدأ تلك المحكمة بالنظر فيها.
والمعقول أن تقول أجهزة الإعلام العالمية إنها تنشرُ الأخبارَ بدقةٍ وصدقٍ وتجرّدٍ، ومن غير المعقول أن تَمنع كلمةَ الحقِّ وتَرفع راية الباطل. والمعقول أن تكون حريّةُ الرأي مصونَةً، ومن غير المعقول أن يُوقَفَ صَحفيٌّ عن العمل، في إحدى المؤسسات الإعلامية التي «تعتبر» من أعرقها، لأنّه أدلى فقط برأيه على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤيدًا للمقاومة الفلسطينية، ولم يصفها بالإرهابية، كما تراها تلك المؤسسة.
والمعقول ألّا يحقّ للقاصر، في بلدٍ «ديمقراطيٍّ» آخر، أن يحصل على جواز سفر، من دون موافقة أبويه. ومن غير المعقول أن يكون له الحقّ في تغيير جنسه، ولا يجوزُ لأبويه أن يمنعاه أو حتى أن يُبديا رأييهما. والمعقول والواجب أن يختار الأهل، في هذا البلد أيضًا، لأولادهم القاصرين المدرسة المناسبة، وأن يتحملوا تكاليفها، ومن غير المعقول أن يُمنعوا من التدخّل أو الاعتراض أو حتى إبداء الرأي، في بعض البرامج التربوية.
والمعقول أن تبحث حكوماتُ بعض الدول «المتقدمة»، عن الوسائل الشافية للسلوك الشواذ لبعض مواطنيها، ولكن من غير المعقول أن يرفعَ رؤساءُ تلك الحكومات، عوضًا عن ذلك، راياتِ الشذوذ باسم الحرّيّة الشخصيّة. «مسكينة أنتِ أيتها الحرية، فكم من الجرائم ترتكب باسمكِ.»
ومعقولٌ أن يكون كلُّ أبن آدم إنسانًا، ولكن اللامعقول أن يكون إنسانًا، من يتحكّم بعيش ومصير ورقاب الضعفاء، ثم يدعي محبّة الحيوانات والرفق بها.
أمّا الادعاء بأننا اليوم، في القرن الواحد والعشرين، قد بلغنا قمّة الحضارة، فأراه خلاصة وصفوة اللامعقول. فهل الظلم والتعدّي على حقوق الضعيف والاستيلاء على أرضه وثرواته، حضارةٌ؟
أم دعم الظالم المعتدي في قتله النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء، بالأسلحة الفتاكة والمدمرة، هو أيضًا من الحضارة؟
أم تدمير الأخلاق والقيم الإنسانية والدينية والأسرة، التي هي نواة المجتمعات، هو من علامات الحضارة؟ أم جعلُ الحرية «شمّاعةً» تحمل أثوابًا مزيفة لمفاهيم الحرية الشخصية، هو قمة الحضارة؟
هذه الادعاءات ليست سوى نفاقٍ لسترِ حقيقة ما حصل ويحصل منذ بداية «عصر هذه الحضارة المزيفة».
وعلى الرُّغم مما أخبرتنا به كتب التاريخ، عن القرون الوسطى، فلم تكن الحروب فيها تتسبب بحجم القتل والدمار بقدر ما فعلته وتفعله حروب «الحضارة الحديثة»، منذ الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا. ففي تلك القرون، وما قبلها، كانت الحروب تدور بين الجنود المقاتلين، وكان المدنيون بالتالي، غير معرضين كما هم في عصرنا الحديث هذا.
فأدعو الله أن يحمي هذه الأرض بمن وبما فيها وعليها، من «إنسانية» هؤلاء «المتحضرين».
مونتريال 10/1/2024
أسامة كامل أبو شقرا
نشرت في مجلة همس الحوار – لندن العدد 23 – كانون الثاني 2024
هل بلغ الإنسان، في اللامعقول، قمّة الحضارة؟
[1] رواية الدكتور طلال أبو غزالة، عن لسان صديقه جيمي كارتر لدولة الولايات المتحدة الأميركية، في مقابلة متلفزة له، يوم 14/10/2023 على موقع سبوت شوت – لبنان.