داعش … والأزهر
يوم الجمعة الواقع فيه 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 قامت مجموعة مما يُسمَّى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش»، بقتل سبعة مواطنين مصريين أقباط وجرحِ تسعة عشر آخرين، كانوا عائدين من زيارة دير القديس صموئيل في المِنْيَا جنوب القاهرة. وهذه، للأسف، ليست المرَّةَ الأولى التي يعتدي فيها هذا «التنظيم» على مصريين أقباط عُزَّلٍ، ونرجو الله أنْ تكونَ الأخيرةَ.
وفي التفاصيل أنَّ «الداعشيّين» أمطروا ضحاياهم بالرصاصِ بعدما كمنوا لهم؛ وكأنهم يترصّدون أخطرَ الأعداء. ومكانُ العمليةِ جنوبُ القاهرة، لا على حدود مصر مع فلسطين المحتلّة!!! فهل لكَ يا أخي القارئ أن تُعينَ ذاكرتِي بذكرِ عمليةٍ واحدةٍ قام بها «داعشيٌّ» بوجه جنديٍّ أو فردٍ من بني صهيون؟ إذ لو حدثَ ذلك لاتُّهِم تنظيمُهم «بمحبَّة العرب ومُعاداة السامية».
فيا أيها «الداعشيُّ»، من أحلَّ لكَ قتلَ أُناسٍ عُزَّلٍ ذنبُهم أنهم كانوا عائدين من دارِ عبادة؟ فهل اعتدى عليك أحدُهُم؟ أو همَّ بالاعتداء على أحدٍ من أفرادِ عائلتِك؟ بل هلْ رأيتَ أحدَهُم شاهرًا مسدسًا أو حتى سكينًا بوجهكَ؟
فلو كنتَ مُسلمًا حقًّا لقرأتَ في القرآن الكريمِ أنَّ الله حرّمَ القتلَ، وأنَّ {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة 32).
وإن كنتَ قد نَصَّبتَ نفسَكَ مُدافعًا عن الإسلامِ والمسلمين فمنْ قالَ لك بأنَّ المسيحيَّ عدوُّهُم؟ ألم تقرأْ قولَه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة 82)؟ فإن كنت لم تقرأْهُ فتلك مُصيبةٌ وإنْ كنتَ قرأتَه فالمصيبةُ أعظمُ.
ويا أصحاب السماحة في الأزهر الشريف، إنَّ الحالَ التي وصلنا إليها لا تَكفِي إصلاحَها بياناتُ الاستنكارِ، بل يحتاجُ إلى حملاتِ توعيةٍ مكثَّفةٍ وواسعةٍ على مستوى العالمِ الإسلاميِّ بأكملِه. فجهلُ العامَّةِ بما جاءَ في القرآنِ الكريمِ، يجعلُهُم أرضًا خَصبةً لنموِّ الفكرِ المتطرِّفِ، ومنبعًا لا ينضَبُ لتوريدِ عُميانِ البصِيرةِ المُستعدِّينَ لارتكابِ أبشعِ الجَرائِمِ وباسمِ الإسلامِ، إذْ يكونُ من السَّهلِ على المُغرِضِينَ غسلُ أدمغتِهم ببضِعِ كلماتٍ معسولةٍ مغلّفةٍ بغلافٍ إسلاميٍّ مُزيفٍ، ليُقنِعوهم بأنَّهم سيُصبِحُون مُجاهِدِين في سبيلِ اللهِ، فيُمْسُوا، بينَ أيديِهِم، قنابلَ موقوتةً يُفجِّرونَها ساعةَ يشاؤون.
فلو فَهِمَ أولئك القتلةُ وأمثالُهم أنَّ أعمالَهُم هذه لا علاقةَ لها بالجِهادِ في سبيلِ اللهِ، بل هي إجرامٌ موصوفٌ واعتداءٌ و{إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190)، {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة 87)، و{اَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} (ق 24-25)، لما اعتدَوا ولا قَتَلُوا، بل لما انتمَوا إلى تلك الجماعاتِ المُجرِمة. ولارتَدَعوا وامتنعُوا، أيضًا، عن الإصغاءِ إلى أولئكَ المُغرِضين المُغَرِّرِين، لو فَهِمُوا قولَه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} (الإسراء 33)، وأنّ هذا «الحقَّ» عائدٌ حَصْرًا لسلطةِ القضاءِ وحدَهُ، ولا يجوزُ لأيّ إنسانٍ آخر أنْ يقضِيَ به، سواءٌ كان مسؤولًا حكوميًّا، ولو كان رئيسَ البلادِ، أمْ عالِمًا دِينيًّا، ولو كانَ مُفتيَ الديارِ أو شيخَ الأزهر.
ولو فهموا معنى تلكَ الكلماتِ التي تجري على ألسنتِهِم كالببغاوات قائلين: «السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه»، لعَرَفوا أنَّ السَّلامَ نقيضُ الحربِ والقتلِ والاعتداءِ.
وهل كان تَورَّطَ هذا العددُ الكبيرُ منهُم في الانتماءِ إلى «داعش» وأمثالهِ، لو عرفوا حُدودَ الله؟ {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة 229).
فنرجوكم يا أصحابَ السَّماحةِ، أن تُبَيِّنوا لهم أنَّ اللهَ تعالى، الرحمنٌ الرَّحيمُ، الذي {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام 12)، لا يُمكِنُ أن يأمُرَ بالقتلِ والذَّبحِ وسبْيِ النساءِ وهدمِ دورِ العبادةِ، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج 40).
وإنْ قالوا بأنَّهم يبغُونَ هِدايةَ النَّاسِ، فنرجُوكم أن تُبيِّنُوا لهم معنى قولِهِ تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص 56)، وأنْ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256). واشْرحُوا لهم قولَه تعالى لرسولِه الكريمِ: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس 99).
وإنْ كانوا حقًّا يُريدون دَعوةَ الناسِ إلى الإسلامِ، فأوضِحُوا لهم أنَّه تعالى قد بَيَّنَ وسيلتها في قولِه للرسولِ ﷺ: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل 125).
أمَّا إنْ كانَتْ غايتُهم محاسبةَ الآخرينَ فبيِّنوا لهُم أنَّها شأنُ اللهِ وحدَه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17).
واشرحُوا لهُم أنَّ من يُوهِمُونَهُم بغيرِ ذلك ليسُوا سِوى مُضلِّلِينَ يَبغون استغلالَهم في سبيلِ مصالحِ أعدائِنا أجمعين، وبأنهم يُلبِسُون الحقَّ بالباطلِ الذي نهانا عنه تعالى بقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 42).
لقد أنزل اللهُ الأديانَ للإصلاحِ والتأليفِ بين البشرِ، لا للتقاتُلِ والتذابحِ، {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النساء 26). وكمْ يَنفَعُ بَنِي البشرِ أنْ يَفْقَهَ كلٌّ منهم قولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13).
وخِتامًا أقول: «لا يُعبدُ اللهُ إلَّا بالعِلمِ»، و{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر 28).
[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – كندا العدد 427 تاريخ 30/11/2018.