البلاد لا تسع يوسفين

البلاد لا تسع يوسفين[1]

لمّا آل عهد الولاية إلى الأمير يوسف الشهابي[2]، طغى وبغى وأكثر الضرائب وعمّت منه النوائب. ومن جملة ما شرع في سَنِّهِ هو وضعُ رسم على الشاشيات، أي العمامات، الذي سماه العامة: “قرش الشاشية”، وذلك انتقامًا من الدروز لشدة كرهه لهم ولأنّ أكثر لابسي الشاشات كانوا دروزًا. فاعترض على هذا الأمر شيخ مشايخ عُقّال الدروز كافة الشيخ يوسف أبو شقرا[3] من عماطور. وحضر عنده في سرايا دير القمر حيث جري بينهما المحاورة والمداورة بهذا الشأن، فلم يرتدع الأمير بل أصرّ على رأيه متهددًا الشيخ بقوله: “البلاد لا تسع يوسفين”. فأجابه الشيخ (فليرحل المتضايق)[4] وخرج غاضبًا.  فالتقاه غندور الخوري في ساحة الدير، كتخداي[5] الأمير فقال له: أبلغتْ منك الجسارةُ يا حضرة الشيخ حتى قُلتَ لسعادة الأمير (فليرحل المتضايق)، تالله لأحمينَّ فرن الدير بشاشات العقال. فانتهره الشيخ يوسف قائلا: والله العظيم لتكسير رأسك ورأس سيدك يوسف شهاب بهذه العصا (مومئًا الى عصاه بيده) أسهلُ جدًّا من إحماء فرن الدير بشاشات عقّال الدروز. ولكن لأفعلن وأفعلن! ومضى وبات تلك الليلة في بعقلين. غير أنه ما نزل في فراشه حتى كتب إلى جميع الأنحاء وصرف الرسل كلا إلى ناحية. أما نصُّ الكتاب فهو الآتي:

«إخواننا أبناء الطاعة

يقتضي حضوركم في النهار الفلاني إلى مرج بعقلين بالأسلحة الكاملة والمؤن والذخائر الوافرة لأمر يحبه الله”.

فلما كان اليوم المضروب طفقت الجماهير تفدُ من كل فجٍ وصوب، حتى تألَّبَ في المرج نحو سبعة آلاف من صنف العقّال بأسلحتهم ومؤنهم، وأكثرُهم لا يدري لمَ كان استحضارهم. فتداولوا هناك في القضية وغدوا جميعهم مصممين على شنٍ الإغارة على دير القمر وأخذها عنوةً واستبدال حاكمها قسرًا أو يذعن لما أبداه شيخ المشايخ. إلّا أن الشيخ ارتأى إنذار الأمير قبل إظهار القوة. فأنفذً إليه مُعتمَدًا يقول له: يقول لك حضرة شيخنا أن تنبذ الإصرار على العناد وتميل إلى الهدى قابلًا ما أبداه لك. فلم يرعوِ الأمير وظلَّ مصرًّا على عناده. فخرج المعتمَد من أمامه قائلا له: إذًا وجهك والرجال. فارتعد الأمير لسماع هذه العبارة الجفائية وكأنّه انتبه من غفلته متيقنًا أن وراء الأكمة ما وراءها. فدعا باثنين من رجاله وأمرهما بسرعة السير جهة الشوف لمشارفة رجال الشيخ والوقوف على ما ينوون إجراءه. أما الشيخ فلما عاد معتمَدُه من لدن الأمير مخذولا امتطى بغلته وسار نحو الدير فسارت في أثره الرجال، ورفع عقيرته بالإنشاد «على المصطفى زيدوا الصلاة». ورجعت جواسيس الأمير تنذره بالخطر الملمّ والخطب المحدق، فهاله الأمر وارتعدت فرائصه فرقًا وضاقت به الدير على رحبها إذ لم يكن لديه ساعتئذٍ من القوة ما يقوم بصدِّ ذلك العسكر العظيم. فهمَّ بالرحيل، وبينما هو كذلك إذا بالمشايخ آل نكد وبقية وجوه دير القمر قد تدخلوا في القضية وأوقفوا الشيخ يوسف عن إتمام مُراده، متعهدين له بتنفيذ مطالبه، وأجروا المصالحة بعد أن أقلع الأمير عن قصده ورفع الرسم عن الشاشيات ورفع خلافَ ذلك من المظالم.

ولما راقت مياه الوداد بين الأمير والشيخ جعل الأمير يدعو الشيخ إليه لأجل قراءة الأوامر والفرمانات التي كانت ترد من الجزار[6] والإجابة عليها. وما فتئ الأمير يلاطف الشيخ ويحسن معاملته حتى ركن إليه. فدسَّ الأميرُ السُّمَّ في طعامٍ قدمه له ولأحد رجاله من ذوي قرباه، وهو الشيخ خطّار نجم نمر أبو شقرا، فقُضِيَ عليهما مسمومين. فكان فقد الشيخ يوسف فاجعة أكبرها أهل البلاد. وصحت منهم الهمم للشغب والعمل على عزله.

 

[1] (منقولة عن كتاب “الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية” – المطبوع في العام 1952 – تأليف يوسف خطار أبو شقرا المتوفى في 1904 – تحقيق عارف يوسف أبو شقرا المتوفى في 1958).

[2] حكم في الفترة بين 1770 و1789.

[3]  الشيخ أبو زين الدين يوسف عربيد أبو شقرا.

[4]  ومنهم من يقول “المكعوم يرحل” أو “المزروك يرحل”.

[5] لفظ تركي – فارسي أصله كدخدا ومعناه “رب الدار“. وكان يطلق في لبنان على معاون الأمير أو وكيل أعماله.

[6]  هو أحمد باشا الجزار والي عكا، التي كانت الإمارة تتبع لها.