قِطّةُ عادل

قِطّةُ عادل[1]

في عشرينيّات القرن الماضي كان أبناء غالبيّة قرى جبل لبنان يتنقّلون بين قراهم إمَّا سيرًا على الأقدام أو على ظهور الدّواب، حسب بعد المسافة أو غايةِ التّنقل. وكانت المدَّةُ الزَّمنيّة، التي يفرضها بُعدُ المسافة للوصول إلى حيث يقصد، تُحتِّم على «المسافر» أن يرسم خطَّ سيره بحيثُ يحدِّد مسبقًا القرية أو القرى التي يتوجّبُ عليه أن يبيتَ فيها ليتابع مسيرته في صباح اليوم التّالي، ما يتيح له أخذَ قِسطٍ من الرّاحة وتجنّبَ السّفر ليلًا. وكان يعمل على أن تكون محطّاتُه في قُرًى له في كلٍّ منها صديقٌ أو نسيبٌ يستضيفه.

وفي أحدِ الأيّام، من أواخرِ فصل الخريف، وقبل غروب الشمسِ بما يزيد عن الساعةِ، دقَّ أسعد باب صديقه عادل في إحدى قرى قضاء جزين. وكان أبناءُ هذا القضاء ينعتون أبناءَ تلك القرية ببساطة العقل والتّفكير. وكان أسعد في طريقه إلى إحدى بلدات السّاحل الصّيداوي. استقبله عادل بالتّرحاب وبوجهٍ بشوش ينمّ عن سروره بقدوم صديقه، كعادة أبناء الجبل الذين عُرفوا بمحبّة الضّيفِ وإكرامه.

وعندما يكون وصولُ الضّيف في ساعةٍ متأخرةٍ من النّهار، يتعذّرُ على المضيف تحضيرُ وجبةَ عشاءٍ تليق به وبضيفه، فلذا قالوا: «ضيف المسا ما له عشا»، ويعنون بهذا أنْ يكونَ عشاؤه من «حواضر البيت»، أي من المؤونة التي كانت ظروفُ معيشتهم تفرضُ عليهم تحضيرها صيفًا لسائر الفصول.

لم تتأخّر زوجة عادل في تحضير وجبةٍ مما قُسم من تلك المؤونة. وضعتها على «صينية» من القشّ المجدولِ فوق كرسيٍّ صغيرٍ أمام باب الدّار، فجلس حولها الضّيفُ وأصحاب البيت. إذ على الرّغم من حلول فصل الخريف، فلم تكن حال الجوّ في ذلك اليوم تفرض عليهم الهروبَ إلى الدّاخل، كما أنَّ عتمةَ الليل تحتاج إلى بعضِ الوقت لترخي سُدُولها.

لفت نظرَ أسعد قطّةٌ تدور حول المائدة وبين الأرجل بموائها المتكرّر طلبًا للأكل، ولشدةِ اتّساخها تبدَّلَ لونُها من الأبيض إلى ما يقربُ من الاسوداد. وبعد الانتهاء من العشاء وشُكرِ الضّيفِ لمضيفه بدأت ساعة السّمر. وكان أوّلها أن سأل أسعد عادلا قائلًا: هل هذه القطّة لك؟

أجاب عادل: أجل. ولقد كان لدينا قبلًا واحدة سوداء وقد نفقت منذ نحو عامٍ بعدما أنهكت السنوات قُواها. ولمّا ولدت قطّةُ جيراننا وهبونا هذه.

قال أسعد: هي بيضاء اللون كما أعتقد، أليس كذلك؟

قال عادل: أجل، ولكن بينما كنَّا بالأمس نُعيد تثبيت «الوجاق»[2] تحضيرًا لبرد الشّتاء، دخلت في أحد «القساطل» فاتّسخَ جسدها كما ترى بسبب فضلات الدّخان التي تتراكم عادة على جدران تلك «القساطل» الدّاخليّة، كما تعلم.

فقال أسعد: ولكن لما لا تغسلها فتنظفَ ويعودَ لونُها كما كان؟

فأجاب عادل: أخاف إن فعلتُ ذلك من أن تنفق.

فقال أسعد: لا تخفْ فأنا كفيلٌ بأنّها ستبقى حيَّةً فالقطّة بسبعة أرواحٍ، كما يقولون.

فقال عادل: سأفعل ذلك غدًا إن شاء الله.

وفي الصّباح الباكر رحل أسعد شاكرًا لصديقه حُسنَ الضّيافة واعدًا بزيارته في طريق العودة. فشيَّعه عادلٌ حتّى خرج من ساحة الدّار، متمنيًا له التّوفيق والعودة سالمًا، مكرّرًا التّرحيبَ به في أيِّ يومٍ أو ساعةٍ.

بعد مرور ما يقرب من الأسبوع مرَّ أسعد، في طريق عودته، بمنزل صديقه عادل كما وعده. وتكرّر أسلوب الضّيافة كما في السّابق، ولكنَّ بدءَ برودة الجوِّ غيّرَ المكان من أمامِ الدّار إلى داخلها. وبعد العشاء لاحظ عادلٌ أن صديقه يُكثر التلفّت في أنحاء الغرفة. فسأله عمّا يبحث. فقال أسعد: إنّي لا أرى القطّة تتجول في الغرفة كما كانت تفعل سابقًا.

فقال عادل: لقد نفقت.

فقال أسعد: وكيف نفقت؟

فأجابه عادل قائلا: «مثل ما قلتلِّي غسلْتَا غسلتا وبسّ عصرتَا ماتت»[3].

 

[1]  من حكايات الأصدقاء، قد تكون مختلقة من قبل أبناء القرى المجاورة، ولكنّها طريفة. 

[2]  الوجاق، مدفأة يُشعلُ في داخلها الحطب ويخرج دخانها بقساطل من التّنك عبر سطح الغرفة أو أحد جدرانها الخارجية. وقد كانت أهمّ وسائل التدفئة في الجبل.

[3]  أي: (لقد عملت بنصيحتك وغسلتها، ولكن عندما عصرتها، قصد التنشيف، نفقت.)