بدعةُ الطعامِ «الحلال»
منذ قدومنا إلى كندا، قبل ما يزيد عن العقدين من الزمن، لفتت نظري عبارة «لحمٌ حلالٌ»، على واجهات المحلات التجارية التي تبيع المواد الغذائية من الجاليات العربية والإسلامية، وكذلك على عبوات منتجات اللحوم. هذه العبارة لم أرَهَا من قبلُ في لبنان أو في غيره من البلدان العربية التي سبق لي أن زرتها. في البدء لم أُعِر الأمر كثيرًا من الاهتمام فكندا دولة تضمن الحرية لمواطنيها سواء في طرق معيشتهم أم في معتقداتهم وآرائهم.
ثم تطور مفهوم هذا «الحلال» ليشمل الألبان ومشتقاتها، فكم من مرة سمعنا من إذاعة «الشرق الأوسط»، (هذه الإذاعة التي أعادت وصلنا مع الوطن الأم)، إعلانًا تجاريًا يفيد أن أحد المحلات التجارية الكبرى يبيع «اللبن الحلال». ثم إن أحد الأصدقاء سألني مرة قائلا: هل هناك حقًا تمرٌ حلالٌ وتمرٌ حرام؟ كل هذا جعلني أبدِّل نظرتي في الأمر من أنه من قبيل الحرية، إلى أنه ينطلق من استغلالٍ لتعاليم الدين الإسلامي، ولعواطف المسلمين في سبيل مصالح مادية صِرف.
فيا إخواني: إن سكان كندا في غالبيتهم العظمى يتبعون الدين المسيحي. والمسيحيون واليهود، من أهل الكتاب الذين قالت فيهم الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} (المائدة 5). فإذا كان الله تعالى أحلّ للمسلمين أن يأكلوا من طعام المسيحيين واليهود، فلماذا نحرّمه نحن؟ وهذا ما قد نهى عنه، سبحانه، إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ} (المائدة 87).
كما أنه، تعالى، وصفه بالافتراء عليه إذ قال: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس 59). كما قال فيه أيضًا: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116).
ثم يا إخواني، وبخاصة الذين يدّعون بعدم شرعية طريقة الذبح، هل فكر أحدكم في التعرف عليها في المسالخ الكندية قبل أن يتهمها بأنها لا تتوافق مع الشرع الإسلامي؟ لقد أخبرني صديقٌ، أعرف جيدًا أنه مسلمٌ مؤمنٌ وذو اطلاع واسعٍ على تعاليم الدين الحنيف، وقد مضى على قدومه إلى كندا نحوُ عقدٍ من الزمن، قال: «عند قدومي إلى كندا كان راسخًا في ذهني أنهم، في المسالخ الكندية، يقتلون الحيوان بالضرب على رأسه ثم يذبحونه، وهذا مخالف للشرع. ولكن بعدما قمت بالتقصّي، تبين لي خطأ هذا الاعتقاد. فهم يعطون الحيوان حقنة مخدرة كي لا يشعر بالألم ثم يذبحونه فتسيل دماؤه، كما تتطلبه الشريعة الإسلامية، كما أنّ هذه الجرعة من المخدر فيها من الرحمة سموٌ إنسانيٌ فائق الأهمية، ما جعلني أتخلّى عن التمسّك في أن أشتري فقط ذاك اللحم الذي يصفونه «بالحلال»، فكل ما عليّ هو أن أذكر اسم الله عليه فيطمئن بذلك قلبي».
فلماذا نعقّد شؤون معيشتنا في البحث عن أمورٍلم يحملنا خالقُنا ﷻ مسؤوليتها؟ ولماذا قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة 101)؟
ثم أسأل الذين يشترون اللحم المعلّب: هل فكر أحدكم زيارة المعمل الذي أنتجها، للتأكد مما إن كان «حلالا» أم لا؟ أم هل سألتم عن معتقدات إصحايه، إن كانوا «مؤمنين أم كُفارًا»، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} (النساء 25)؟
فما دمنا نذكر اسم الله قبل البدء بأي عمل نقوم به، بما فيه تناول الطعام، فلا جُناح علينا بإذنه تعالى.
ولنقرأ معًا هاتين الآيتين: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة 93).
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (الأنعام 119).
فيا إخواني أرجوكم أن {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} (المائدة 77).
ولنكفّ جميعًا عن تحميل، سواء هذا الدين الحنيف أم غيرنا من المسلمين، وزر أولئك المستغلين أو الجاهلين لتعاليمه السمحة، واذكروا دومًا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185). و {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج 78).
ولنجعل الآخرين يقرأون تعاليم ديننا في أخلاقنا وسلوكنا وتعاملنا.
[1] كتبت هذا المقال في 28/7/2012، ونشرته على الفيسبوك.