أمعاء مسعود[1]
في الرُّبع الأوّل من القرن الماضي لم تكن الخدمات الصّحية بعد متوفرةً في الكثير من قرى جبل لبنان، وبخاصّةٍ الصّغيرة والنّائية منها. وعلى الرُّغم من أن عددًا لا بأس به منها كانت تربطه بكبرى البلدات طرقاتٌ شُقّت لتسهيل سير عربات الخيل، إلا أنّها لم تكن معبّدة. كما أن السّيارات كانت لم تزلْ قليلة جدًّا إن لم نقل نادرة، ممّا كان يشكِّلُ صعوبة على شديدي المرضِ في الانتقال إلى عيادات الأطبّاء، سواء في المدن أم في البلدات الكبيرة. إلّا أنّ بعضَ الأطباء من أبناء تلك البلدات، كانوا يقومون بجولات، غالبًا ما تكون على ظهور الدواب، كلّ أسبوعٍ أو أسبوعين على القرى القريبة من بلداتهم، حيث يخصّص مختار القرية أو أحد وجهائها، غرفةً أو زاويةً من «مضافته»، يستقبل فيها الطّبيبُ المرضى ثم يصف لهم الأدوية المناسبة مما كان يحمله في جعبته، وغالبًا ما يكون ذلك الدواء مركبًا، من قبلِ صيدليٍّ، حسب وصفة ذلك الطبيب لعلاج الأمراضٍ المُعديةٍ التي تكثُر الإصابةُ حسب المواسم.
كذلك كان حال البيطريّين. وقد كانوا على نوعين: الأول، هم المتخصصون الذين درسوا المهنة في إحدى جامعتي بيروت، الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف. والثاني، هم ممن اكتسب هذه الحرفة عن سابقيه وبالممارسة، إذ لم تكن الدّولة قد نَظّمت بعد هذه المهنة قانونينًّا، ولكنّ جولاتهم كانت متباعدة زمنيًّا أو أحيانًا موسميّة.
ويروى أن أحد أبناء قرية صغيرة نائية، وكان يُدعى مسعودًا، أصيب بعُسرٍ شديدٍ في إخراجِ الثّفلِ من أمعائه، بدأ يشعر به في اليوم التّالي لزيارة الطبيب لقريته. وهذا الأخير لن يعود ثانيةّ قبل أسبوعين كالمعتاد. اشتدَّ المرض على مسعودٍ فانشغل أبناءُ القرية كلّهم بمرضه، الذي يبدو أنه كان نوعًا من القّولنج[2]. وصار كثيرون منهم يصفون له وصفات توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، كما لم ينسوا التعويذات والرقى. ولكن كل ذلك لم يجدِ نفعًا.
ويصدف أن يأتي القرية «بيطريٌّ» كان في طريقه في جولةٍ على بعض القرى المجاورة. فيطير هذا الخبر بسرعة البرق في جميع أنحاء القرية، ويهبُّ ابن عمِّ مسعود ليطلب العون من ذلك البيطريّ. ولكنّ هذا الأخيرَ رفضَ وصف أيَّ دواءٍ قائلًا بأنّ علاج البشر يختلف عن علاج الحيوان، وبخاصّةٍ أنه قد اكتسب خبرته عن والده وعزَّزها بالممارسة. ولكنّ ابن عمِّ مسعودٍ ألحّ في طلب المساعدة قائلا: على الرّغم ممّا تقول فيبقى لديك علمٌ بمثل هذه الأمور أكثر من جميع أبناء القرية، وقد يموت مسعودٌ قبل عودة الطّبيب، التي لن تكون قبل أسبوعين.
وجد البيطريُّ نفسه أمام معضلة تحتّم عليه اتخاذَ موقفٍ في أمرٍ إنسانيٍّ، فإمّا أن يصف لمسعود دواءً قد يكون فيه شفاؤه، أو أن يتركه عُرضةً لخطر تسمُّمٍ قد يُودي بحياته. فأخرج من جعبته دواءً أعطى منه كميةً لابن عمِّ المريض وشرح له طريقة استعمالها. وقد حدَّدَ حجم تلك الكميّة بمقارنة نسبيّة، فرأى أن نصف ما يعطيه عادة للثّورِ كافٍ لحالة مسعود. ثم غادر القرية على عجل لإكمال جولته.
وبعد ما يزيد عن الأسبوع، جاء القريةَ ذلك البيطريُّ في طريق عودته من جولته تلك. فسأل أوّل من التقاه من أبناء القرية، قائلًا: طمئنّي، هل أخرج مسعودٌ الثّفل من أمعائه؟ فجاءه الجواب: أجل لقد حصل ذلك مرتين، الأولى قبل موته والثانية بعده.
[1] من روايات الآباء.
[2] القُولَنْجُ، وقَدْ تُكْسَرُ لامُهُ، أو هو مكسورُ اللامِ، ويُفْتَحُ القافُ ويُضَمُّ: مَرَضٌ مِعَوِيُّ مُؤْلِمٌ، يَعْسُرُ معه خُروجُ الثُّفْلِ والرِّيحِ.