ليس دفاعًا عن العرب

ليس دفاعًا عن العرب

قال كثيرون، وأنا منهم: العربُ جَهلةٌ ومتخلِّفون سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، والإنسانُ العربي يعيشُ في بلادِه مقموعًا ومحرومًا من أبسطِ حقوقِ الإنسانِ. والديمقراطيةُ لا وجودَ لها إلّا في الكتبِ التي لا يقرأُونها. بينما أهلُ الغربِ ينعمون بكلِّ ذلك.

 

وقالوا، وقلت معهم: لقد اكتشفَ أهلُ الغربِ واخترعُوا كلَّ ما من شأنِهِ خدمةُ وتحسينُ وتسهيلُ عِيشةَ بني البشرِ، بينما يعملُ العربُ على نشرِ الإرهابِ والتفريقِ والكراهيةِ بين الأديانِ والمذاهِبِ؛ ويُدمّرون أوطانَهم، ويذبحُ الأخُ أخاه باسمِ الدينِ، ويعيثون في الأرضِ فسادًا.

وهجَرَ كثيرون «جحيمَ» بلادِ العربِ، وأنا منهم، إلى «نعيمِ» بلادِ الغربِ، لأنّهم ضاقوا ذرعًا بما وصلت إليه أحوالُ بلادهم، إذْ لا حول لهم ولا قوة.

 

ولكن، هل أهلُ الغربِ ملائكةٌ أمْ مِثاليُّون؟ أليسوا همُ الذين اخترعُوا الأنواعَ المُختلفةَ من الأسلحَةِ الأشدّ فتكًا بالبشرِ والحجرِ؟ وهل كان العربُ أو المسلمون همُ الذينَ أشعلوا الحربين العالمِيتين في القرنِ الماضِي، واللتَيْن أُزهِقَتْ فيهِما ملايينُ الأرواحِ ودُمِّرَتْ بُلدانٌ عديدةٌ؟

ثمَّ، هل كانَ العربُ أو المسلمون، همُ الَّذين دمّرُوا هيروشيما وناكا زاكي وقتلوا مئاتِ الآلافِ في دقائق معدودات من دونِ أن يهتزَّ لهم جفنٌ؟

وهل كانَ العربُ أو المسلمون، همُ الَّذين غزَوا القارَّتَين، الأميركيةِ والأستراليةِ، وقتلوا الملايين من سُكانِهما الأصليّين ليؤسِّسُوا دُولًا، يتبجَّحُ مسؤولوها بأنها معاقلُ للحريةِ والديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسانِ؟

ومن خطفَ مليونَ إنسانٍ من إفريقيا وساقَهُم مُقيدِين، وشَحَنَهُم في البواخرِ كما تُشْحَنُ الحيواناتُ الضاريةُ والكريهةُ، ليقضيَ منهم مئاتُ الآلافِ في البحرِ، وليُستعبَدَ الباقون ويُسَخَّروا في بناءِ الولاياتِ المتحدةِ الأميركيةِ، أقوى تلك الدولِ؟؟؟ ومن أعطى مسؤوليها حقَّ فرضِ العقوباتِ، مزاجيًا، على دولٍ وأشخاصٍ، ماديّين أو معنويّين، من غيرِ مواطنيها، وإرغامِ الدولِ الضعيفةِ، على أن تكشفَ لهم عن بياناتِ مواطنيها الشخصيةِ وعن أملاكِهم وأموالِهم فيبتزّونهم ليسلبوها؟؟؟ أليس هذا شأنُ العصابات؟؟؟ وكم من دولة صادروا أموالَها المودعةَ في بنوكِهم؟؟؟ ألا يُعدُّ هذا خِيانَة الأمانَةِ؟؟ واللائحة طويلة.

 

قديمًا قيل: «لكلِّ عالمٍ هفوةٌ ولكلِّ جوادٍ كبوةٌ»، وأضيف: «ولكلِّ شعبٍ غفوةٌ». فيوم كان العربُ في أوجِ عزِّهم وحضارتِهم، كان أهلُ الغربِ يعيشُون في جهلٍ مُطبَقٍ. ومع الزمن، وحَسْبَ قوانين وسُننِ حيَوَاتِ الشُّعوبِ، هبطُوا من عليائِهم وأصبحوا محكومين من شعوبٍ أخرى، ودخلوا في سُباتِ نومٍ عميقٍ لمئاتِ السِّنين. ولمَّا بدأوا يستيقظون راحَ أهلُ الغربِ يَكيلون لهم الضربةَ تِلوَ الأخرى، ليبقَوا غائبين عن الوعي. تقولُهُم رجلًا اعتدتْ عليه عِصابةُ أشقياءٍ فأفقدُوه رُشْدَه، وكلّما فتحَ عينَيهِ ليستعيدَ وعيَهُ، عاجَلَهُ أحدُهم بضربةٍ أعادَتْهُ إلى الغيبوبةِ.

فيومَ شعرَ أهلُ الغربِ أنَّ محمدَ علي باشا، إثرَ احتلالِه سوريا في ثلاثينيّاتِ القرنِ التاسعِ عشر، أصبحَ بصددِ تأسيسِ دولةٍ عربيةٍ قويّةٍ، قد تتمكّنُ من وراثَةِ السّلطنةِ العثمانيةِ، حشدتْ دولُ أوروبَّا الاستعماريةُ، بقيادةِ بريطانيا، القُوى بحجةِ مساندةِ البابِ العالِي لاستردادِ «ممتلكاتِه». فطردتْ ذلك «الغازي المغتصبِ» وأعادتْ تحجيمَه واليًا على مصر. ثمَّ راحَ عُمّالُ بريطانيا وفرنسا يبثُّون الشقاقَ والحِقدَ والكُرهَ في نفوسِ من عاشوا مئاتِ السِّنينَ بوئامٍ تامٍّ بينهم، مستغلِّينَ اختلافَ معتقداتِهم الدينيةِ لتشتعلَ الفِتنُ الطائفية في جبلِ لبنانَ وتمتدَّ إلى دمشق. وهذا تحضيرًا لما ستنفذَانه في بدايةِ القرنِ العشرين، من تقسيماتِ سايكس – بيكو إلى وعدِ بلفور. وتستغلُّ بريطانيا «طيبَةَ» قلبِ الشريفِ حسينِ، وتعده بدولة عربية من دون تحديد معالمها، فيثور على السّلطنةِ العثمانيةِ، وتساعدُ، في الوقتِ عينه، آلَ سعود في بسطِ سيطرتِهم على شِبهِ الجزيرةِ العربيةِ؛ فكان أن تقاتل الإخوة، ودُحِرَ «الشريفُ» وقُضِيَ عليه وعلى حُلمِه، هو ورفاقه، في تأسيسِ دولةٍ عربيةٍ على أراضي العربِ.

وإبَّان استعمار بريطانيا وفرنسا، إثر الحرب العالمية الأولى، لتلك الدويلات التي اصطنعتها اتفاقية سايكس – بيكو، فتحت بريطانيا «العظمى»، أبوابَ فلسطين واسعِةً أمامَ هِجرةِ اليهودِ إليها من جميعِ أنحاءِ العالمِ؛ ليقومَ هؤلاء في العام 1948، بإعلان «دولتهم» وبطردِ نصفَ شعبِ فلسطين من أراضيهم وبيوتِهم، وأمام أعيُنِ وبمباركةِ، من يتشدقون بأنّهم حماة «حقوق الإنسان»، أهلِ الغربِ قاطبةً؛ في حين كانت تلكَ «الدويلات» ضعيفةَ القُوى هزيلةَ السلاحِ، منها ما لم يكن قد مضى على استقلالها، عن ذلك الاستعمارِ، بِضعُ سنينَ أو لم تكُنْ قد استقلَّتْ بعد.

ثمّ أعادوا الكرَّةَ في لبنان، وبمساهمةٍ فعّالةٍ من «دولةِ صهيونَ»، بتأجيج حربٍ، ألبسُوها ثوبَ «الطائفية»، في الرّبعِ الأخيرِ من القرنِ العشرين، لتتوقفَ كي تبدأ الحربُ الأولى على العراقِ في العامِ 1990، بقيادةِ الولايات المتحدة الأميركية، «راعيةِ الحُريةِ والديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسانِ». ثم تُتبِعُها بحربٍ تدميريةٍ في العام 2003، قطَّعَت أوصَالَهُ وهجّرَتْ وقتلت الملايين من أبنائهِ، أطفالًا ونساءً وشُيوخًا. ولا ننسى سعيَ ودورَ بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في تأجيجِ الفكرِ الإسلامِي المُتطرِّفِ، بخِدعَةِ «الجهادِ المقدَّسِ»، بدءًا من أفغانستان إلى العراق ثم إلى دولِ ما سُمِّيَ «بالربيع العربي»، إلى ما أصابَ ويصيبُ ليبيا واليمن وسوريا، من دمارٍ وقتلِ وتشريدِ الملايين. كلُّ هذا في سبيلِ تحقيقِ غاياتِهما ومصالحِهما وسرقَةِ ثرواتِ بلادِ العربِ. ولست أدري ماذا يُخَبَّءُ لنا بعد إعلانِ «دولة اليهود القومية»؟

 

ومع هذا، لا أنكر أبدًا تقاعُسَ، بل غيابَ وتخلّفَ، من يسمَّون «قادة الدول العربية»، عن القيامِ بواجبَاتِهم في توعِيةِ شعوبهم وتوحيدِ القُوى، لعلَّنا ننجو من هذا التشرذُمِ القاتلِ، فتصبح بلادُنا قويةً وقادرةً على التصدّي لما تواجِهُهُ من أخطار. راجيًا الله ألّا يكون لأيٍّ منهم دورٌ فيما حصلَ أو ما يحصل. والله أعلم.

 

 

[1] نشر هذا المقال في جريدة الرسالة – مونتريال العدد 423 تاريخ 28/9/2018.