شريعة الغاب لم تُزَلْ من النفوس

شريعة الغاب لم تُزَلْ من النفوس[1]

أسامة كامل أبو شقرا

09/12/2024

خاص: مجلة همس الحوار – العدد 27 – كانون الثاني (يناير) 2025

حماية النفس من أهمّ الغرائز لدى المخلوقات الحيّة، إن لم تكن أهمَّها على الإطلاق. وعلى الرّغم من أنّ الله تعالى قد سخّر للإنسان ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[2]، ولأن الكثير من تلك المخلوقات، بما فيها من بني الإنسان نفسه، كانت تشكل خطرًا دائمًا على حياته، ولذا كان عليه أن يمتلك القوة التي تمكنه من درئه.

والقُوَّةُ، لغةً، نقـيض الضَّعْفِ، والـجمع قُوىً و قِوىً. وقولـه عز وجل: {يا يحيى خُذِ الكتاب بقُوَّةٍ﴾ «أَي بِجِدّ وعَوْن من اللـه تعالـى». ورجل شديد القُوَى أَي شدِيدُ أَسْرِ الـخَـلْقِ مُـمَرُّه (مَفْتُولَة عَضُدُهْ). وقال عز وجل لـموسى حين كتب لـه الأَلواح: ﴿فخذها بقوَّة﴾؛ قال الزجاج: «أَي خذها بقُوَّة فـي دينك وحُجَّتك». والقُوَى: العَقْلُ، وأقْوَى: اسْتَغْنَى أي صار غنيًّا. والقَويُّ، من أسماء الله الحسنى.

وتَمَكَّنَ من الشيء واسْتَمْكَنَ ظَفِر، وقولـه عزّ وجلّ: ﴿وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ حتى صار متمكّنًا من الأمر والنهي. ومكّنّا له في الأرض؛ «أقدرناه على ما يريد».

ويروى «أنّ قدماء الفُرْسِ كانوا لا يولُّون الثغور إلا لمن كملت به أربع عشرة صفة من صفات الحيوان: أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدأ من قطا، وأحذر من قاق، وأجرأ من أسد، وأثبت من فهد، وأروغ من ثعلب، وأوقح من ذئب، وأسخى من ديك، وأقدم من نمر، وأجمع من دَرَّة[3]، وأحرص من كلب، وأصبر من حمار، وأطوع من جمل.»

وأستخلص مما تقدم، أنّ العضلات المفتولة وحدها لا تصنع الإنسان القويّ، ولكنه يزداد قوة بقدر ما يجمع من الصفات السابقة، وأهمها العقل والمال. وهذا ينطبق، أيضًا، على الجماعات والدول.

ولو عدنا إلى التاريخ، لرأينا أنّ المال هو المحرِّك الأول والأهم للحروب، على الرُّغم من الأهداف المعلنة لكل منها. فمن دولة تشنُّ حربًا على جارتها طمعا بثرواتها، إلى ثانية تبدأ حربًا استباقية لحماية ما تتميز به من موارد طبيعية أو استراتيجية، من طمع دولة أخرى. والاثنتان تستمدان قوتيهما من كل ما يتوفر لديهما من الموارد البشرية والمادية. فالدولة التي كان قادتها الأمهرَ في إعمال العقل والدهاء واستغلال قوة وإقدام وشجاعة مقاتليها، واقناعهم «بسموِّ» الهدف أو الأهداف المعلنة، تكون لها الغلبة على عدوّتها.

والدولة العربية، مثلًا، التي جاء مقاتلوها من الصحاري القاحلة، كانت الغاية من فتوحاتها الحصول على أراضٍ خصبة توفر لها موارد القوة المادية، والعيش الرغيد لأبنائها، تحت راية نشر الدعوة لدين الإسلام. وعلى الرّغم من أنّه لم تفرض بحد السيف على رعايا البلدان التي احتلتها، اعتناقَ الدين الجديد، وعلى الرّغم من القلة النسبية لعدد المحاربين، فقد كان إيمان هؤلاء بقدسية هدف حروبهم، أهمَّ عنصرٍ في تمكين دولتهم من توسيع رقعة أراضيها، حتى بلغت حدود الصين شرقًا وشواطئ المحيط الأطلسي غربًا.

كذلك استغلّ قادة الحروب الصليبية، إيمان المقاتلين الدينيّ، في أنّ غاية قتالهم هي تأمين سلامة وصول الحجاج إلى الأمكنة المقدسة في مدينة القدس بخاصة، وفي فلسطين بعامة. فإذا بهم يقيمون مستعْمرات لاستغلال الأراضي التي تمكنوا من السيطرة عليها.

أمّا الحرب العالمية الأولى، التي بدأت في القارة الأوروبية، فسرعان ما انتقلت إلى الشرق للاستيلاء على تركة السلطنة العثمانية، وتقاسمها، بعامة، والبلاد العربية بخاصة، لما لها من مواقع استراتيجية، وما فيها من موارد طبيعية، وخوفًا من أن تعاود نهضتها ووحدتها فتشكل خطرًا على أوروبا بأكملها.

وبحجة، «مَن اكتشف أرضًا ملكها»، استُملِكت القارة الأميركية من قبل جماعات، ضمت الكثير من السجناء السابقين وبنات الهوى، أرسلتها الدول الأوربية القوية الاستعمارية، ليُقِيموا دولًا جديدةً على جثث أصحاب الأرض الأصليين الذين ملكوها منذ آلاف السنين.

وأهم تلك الدول، الولايات المتحدة الأميركية، أصبحت، منذ أوائل القرن العشرين أعظم دول العالم، بسبب قوتها المادية وثرواتها ومواردها الطبيعية، بالإضافة إلى مساحة أراضيها وعدد سكانها، ما مكّنها من أن تتصدر قائمة الدول، مالكة ومصنّعة أحدث الأسلحة الفتاكة بمختلف أنواعها. إلى أن فرضت دولارها، كعملة التداول الوحيدة، في العالم أجمع، وبذلك كلِّه، وبخاصة قوتها الاقتصادية، راحت تتحكم بمصائر معظم شعوبه، المتوسطة القوة والضعيفة.

أما الشعوب المسلوبة الحقوق، كالفلسطينيين الذين اغتصبت أرضهم، التي توارثوها منذ آلاف السنين، من قبل جماعات لملمتها الدول «المتحضرة»، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، من أقطار المعمورة، وأسمتها «شعبًا بلا أرض»، ومنحتها الحقّ في تأسيس دولةٍ على «أرضٍ بلا شعب». فليس فقط لم تقرّ لهم، تلك الدول «المتحضرة»، بالحق بالمطالبة باستعادة حقوقهم، بل اتهمتهم بالإرهاب، ودعمت المغتصب أيضًا وبكل قواها، بحجة حقِّه، وحدَه، في الدفاع عن نفسه، وأغرقته بالأسلحة والأموال. وإن طالبت إحدى منظمات الأمم المتحدة ذلك المغتصب، بالتوقف عن ذبح الأطفال والنساء والطواقم الطبية وتهديم المساكن والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، تصدت لها، تلك الدولة العظمى، ولقراراتها ومطالبها، وكأن الأمر يمسّها هي وشعبها. كلُّ ذلك وهي تتشدق مدعية بأنّها حامية حقوق الإنسان، رافعةً راياتِ الشعارات الخدّاعة.

وخلاصة القول، فإن تخلّى الإنسان الفرد، أو الجماعة أو الدولة، عن القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية، سواء في الحرب أم في السلم، تحولوا إلى مخلوقات أوحش من الحيوان المفترس، حين يكون جائعًا، فيصبح قتل الأطفال والنساء والعجزة والعُزّل، عمدًا أو بحرمانهم من موارد العيش، أهونَ عليهم من قتل حشرة ضارة. وما نراه يجري هذه الأيام يؤكّدُ لي أن شريعة الغاب التي تقول: «القويّ يأكل الضعيف»، أو «الحقُّ للقوة» أو ما شابه، لم تزل متأصلة في نفوس البشر، تأصّل الشر في نفوس الشياطين.

وختامًا أقول: أيها الإنسان، تذكّر دومًا أنك خُلقْتَ ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾[4]، وأنّك مهما بلغت من القوة فهناك من هو أقوى منك، وأنّ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾[5].

[1] نشرت في مجلة همس الحوار – لندن – في عدد 15 كانون الثاني / يناير 2025.     https://whisperingdialogue.com/2025/01/15/%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d8%a8-%d9%84%d9%85-%d8%aa%d8%b2%d9%8f%d9%84%d9%92-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b3/

[2]  (لقمان 20).

[3] الدِّرّة، الناقة الكثيرة اللبن (لسان العرب)، وأرى أنّ المقصود جمع المال.

[4] (المرسلات 20).

[5] (الرحمن 26 – 27).